السيناريست عماد النشار يكتب: أنقذوا الطبيب محمود قنيبر قبل أن نفقده للأبد!


طالعت قبل ساعات، أثناء تصفحي، منشورًا لقى تفاعلًا كبيرًا كتبه صديق للطبيب محمود سامي قنيبر. كان المنشور أشبه بصيحة أخيرة، استغاثة يائسة لإنقاذ طبيب شاب لم يكن مجرد طبيب، بل كان تجسيدًا لمعنى ملاك الرحمة. قرأت كلماته، ولم أستطع أن أتجاهلها. شعرت أن الكتابة عنه ليست مجرد واجب مهني، بل مسؤولية إنسانية. فكيف يمكن أن نصمت أمام قصة كهذه؟ كيف يمكن أن نرى رجلًا وهب حياته لإنقاذ الآخرين، ثم حين احتاج هو من ينقذه، وجد نفسه وحيدًا في العتمة؟
حين فتح عينيه... لم يرَ شيئًا. النور اختفى. العالم أصبح ظلامًا مطبقًا. لم يكن هذا كابوسًا، لم يكن لحظة عابرة من دوار الإرهاق، بل كان الحقيقة التي ستحكم حياته إلى الأبد.
تخيل أن تستيقظ ذات يوم، فتجد أنك فقدت كل شيء... النور، الأمل، المستقبل. لم يكن يتوقع أن تكون آخر صورة تنطبع في ذاكرته هي غرفة عزل بيضاء، مزدحمة بالأنفاس الثقيلة، وجوه هزيلة تحارب للبقاء، وأيدٍ ممتدة إليه كأنها تتشبث بالحياة. لم يكن يعلم أن تلك اللحظة، ذلك اليوم تحديدًا، سيكون آخر ما يراه في حياته.
اقرأ أيضاً
السيناريست عماد النشار يكتب: الحقّ ينتصر بذاته وبأدواته
السيناريست عماد النشار يكتب: سَنَوَاتٌ بِلَا بَرَكَةٍ.. وَعَاصِفَةٌ عَلَى كُلِّ الطُّرُقِ
السيناريست عماد النشار يكتب: إحنا آسفين يا زمان!
السيناريست عماد النشار يكتب: قَطَايفُ سَامِحٍ وَقِطَّةُ مِهْسَاسٍ
السيناريست عماد النشار يكتب: العَالَمُ يُدَارُ بِمِقْيَاسِ بُرُوكْرِسْت
السيناريست عماد النشار يكتب: إلى ربات ”الروبوت”!
السيناريست عماد النشار يكتب: العالم في حالة هذيان.. الجنون يجتاح السياسة والمجتمع والإعلام
السيناريست عماد النشار يكتب: زينب بنت جحش: بين أمر السماء واختبار القلب
السيناريست عماد النشار يكتب: شَهْرُ الفَرَحَةِ، فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا
السيناريست عماد النشار يكتب: مدارس الزعيم الأباصيري للأخلاق الحميدة!
السيناريست عماد النشار يكتب: بين الإدراك والتغافل.. حينما يصبح الوعي منفى والتغافل وطنًا
السيناريست عماد النشار يكتب: يُحْكَى أنَّ...
محمود سامي قنيبر، طبيب ثلاثيني، شاب كانت مهنته هي بوصلته، وقسمه الذي ردده يوم تخرّجه لم يكن مجرد كلمات، بل عقيدة عاش بها. حين اجتاح وباء كورونا البلاد، لم يسأل عن أمانه الشخصي، لم يتردد، لم يختبئ خلف جدران بيته. اندفع، كما يليق بطبيب يعرف أن مهنته ليست مجرد وظيفة، بل قدر.
كان يومًا عصيبًا. موجة الموت كانت في ذروتها، والمرضى يتساقطون كأوراق الخريف. استقبل محمود عشرات الحالات، لم يأكل، لم يشرب، لم يغمض له جفن. كلما التفت وجد مريضًا آخر، عينًا أخرى ترجوه أن يفعل شيئًا. وكان يفعل، بلا كلل، بلا خوف، حتى انهار.
وحين استيقظ... لم يكن هناك شيء. لا جدران، لا أسرّة، لا وجوه.
ظلام.لا بقعة ضوء، لا وهج شاشة جهاز، لا انعكاس لمبضع معدني.
رفع يده إلى عينيه، فركهما، صرخ، لكنه لم يرَ حتى دموعه.
هل يمكنك أن تتخيل أن تستيقظ في يوم عادي، لتجد أن النور قد غادرك للأبد؟ أن تُحكم عليك بالإعدام البصري في لحظة؟ أن تكون في نهاية الثلاثينات من عمرك، قويًا، قادرًا، ثم تتحول إلى شخص يتلمس طريقه بأنامل مرتجفة؟
لم يكن محمود مجرد طبيب فقد بصره، بل كان إنسانًا تحطم فجأة، بكامل وعيه. كان رجلاً يُدرك حجم المأساة، يسمع أصوات الناس حوله يهمسون: "لا أمل... لقد انتهى."
في البداية، احتضنته الدولة. كرّمته، أشادت به، وعدته بالكثير. ربما شعر للحظة أن كل شيء سيكون على ما يرام. لكنه كان مخطئًا.
ببطء، كما يحدث دائمًا، طُوي ملفه في الأدراج. هدأت الأصوات، تلاشى التعاطف، وتحوّل محمود من "بطل" إلى مجرد رقم منسي في قائمة الوعود المؤجلة.
ثم بدأ السقوط الحر.الاكتئاب، القلق، نوبات الفزع الليلية. صار يستيقظ ليصرخ في العتمة، كأنه يسقط من جُب بلا نهاية. كان يستيقظ ليجد العتمة ما زالت هنا، تنتظره،والخذلان كان أعمق من العمى.
كان محمود يحتاج وظيفة، ليس كمعونة، ليس كمنحة، بل كحق. لم يطلب المستحيل، لم يشحذ العطف، لكنه أراد أن يشعر أنه ما زال موجودًا، أنه لم يُلقَ في الظل لمجرد أن الضوء تخلى عنه.
وفي ليلة، صعد إلى سطح العمارة،بيدين متلمستين، وحاسة لمس صارت بصره الوحيد، مشى إلى الحافة.
وقف هناك، والريح تضرب وجهه، وجسده يختلج بين السقوط والتراجع،فكر أن ينهي الأمر،لكن شيئًا أوقفه.
يحيى ورشيد، طفلاه.بكى، ثم عاد أدراجه، لكنه لم يعد كما كان.
الآن، محمود على حافة أخرى. ليس السطح هذه المرة، بل بين اليأس والصبر، بين الرجاء والانهيار.
إنه يقولها بصراحة الآن: "أنا في خطر. لست قويًا كما تظنون. لست بخير. لا أريد أن أشفق على نفسي، لكنني لا أحتمل أكثر."
هل سمعه أحد؟،هل تسمعون؟
إنه لا يطلب صدقة، لا يحتاج لمسة حانية على كتفه ثم تختفي. إنه يحتاج أن يُعامل كإنسان، كطبيب أعطى بلاده أكثر مما كان مطلوبًا، فهل تطلب منه أن يدفع ثمن تضحيته وحده؟
الوقت يمر،ومحمود يقف الآن على حافة أخرى... هذه المرة ليس فوق السطح، بل على حافة الحياة نفسها. هل سنتركه يسقط؟.