السيناريست عماد النشار يكتب: زينب بنت جحش: بين أمر السماء واختبار القلب


كان الفجر يتنفس على مهلٍ فوق مكة، ناثرًا خيوطه الذهبية بين جبالها الوعرة، وكأن الشمس تتلمس طريقها للخروج من أسر الظلام. وعلى تلك الرمال الصامتة، التي شهدت أفراحًا قليلة وأحزانًا لا تُحصى، جاءت زينب بنت جحش إلى الدنيا، حاملة في دمائها شرف النسب وقوة الإرادة.
ولدت زينب في بيتٍ من أشرف بيوت قريش، فهي ابنة جحش بن رئاب الأسدي، وأمها أميمة بنت عبد المطلب، عمة النبي ﷺ، مما جعلها ليست فقط من قريش، بل من أهل بيت النبي نفسه.
نشأت بين أعراف العزة والكرامة، وورثت عن أمها صلة الدم النبوي، فشبّت على الإباء والعفة والقوة.
لم تكن ممن يُغريهن التفاخر بالأنساب دون عمل، بل كانت ذات شخصية مستقلة، تحمل في نظرتها كبرياءً فطريًا، ليس استعلاءً، وإنما إدراكًا لقيمتها الحقيقية.
كانت تسير بين نساء مكة وكأنها تعرف طريقها مسبقًا، لا تلتفت كثيرًا إلى المظاهر، ولا تُغريها زخارف الحياة كما تفعل بنات الأشراف. لم يكن ذلك مجرد ثقة، بل كان نوعًا آخر من العزة، عزة تجعلها ترفع رأسها عاليًا وكأنها تُخاطب القدر: أعلم أنك تخبئ لي شيئًا مختلفًا، ولن أكون أقل من أن أواجهه!
كبرت زينب، ولم تكن فتاةً تكتفي بظلال الحرير والمجوهرات كما تفعل بنات مكة، بل كانت ذات عقلٍ متقدٍ وقلبٍ مضيء، تحب مجالسة الكبار، وتصغي إلى نقاشاتهم حول الشرف والكرامة كأنها تنتمي لعالمٍ آخر، عالمٍ لا تحكمه الأصنام ولا تقيّده العادات.
في إحدى الليالي، كانت مكة تغفو تحت سماءٍ مرصعة بالنجوم، لكن دار الأرقم كانت تضج بنورٍ آخر، نورٌ لا تراه العيون التي أغلقتها الوثنية، لكنه كان يضيء قلوب أولئك الذين صدّقوا.
كان همس الإيمان يملأ الغرفة، وآيات تتلى فتبعث الرجفة في القلوب العطشى للحق.
لم تكن زينب موجودة في تلك الليلة، لكنها سمعت.
سمع قلبها قبل أذنيها، وكأن شيئًا كان يسحبها نحو ذاك النور.
لم يكن الإسلام بالنسبة لها مجرد دينٍ جديد، بل كان إجابةً على تساؤلات طالما ملأت رأسها منذ صباها.
وفي لحظةٍ صامتة، في إحدى زوايا بيتها، جلست زينب وحدها. أخذت نفسًا عميقًا، وكأنها تستعد لعبور بوابةٍ لا عودة منها، ثم قالت بصوتٍ يشبه النبض:
"أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله."
زواجٌ لم يخطر لها على بال
لم يكن في خيال زينب أن يأتي اليوم الذي يكون فيه الزواج اختبارًا لقلبها، لكن القدر كان يكتب لها قصةً لم تخطر لها ببال.
جاءها النبي ﷺ يحمل أمرًا سماويًا: أن تتزوج زيد بن حارثة، الصحابي الجليل الذي كان في يومٍ من الأيام عبدًا، ثم تبناه النبي ﷺ وجعله كابنٍ له.
شعرت زينب باضطرابٍ لم تستطع إخفاءه. لم يكن رفضها لزيدٍ لشخصه، فهي تعرف أنه رجل صالح، لكنها لم تستطع أن تتجاهل إحساسها الداخلي.
كان الأمر أكبر من فرق المكانة، كان شيئًا آخر، ذلك الشعور الخفي الذي لا يمكن تفسيره بالكلمات.
في لحظة التردد تلك، جاء الوحي يحمل أمرًا قاطعًا:
"وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ" (الأحزاب: 36).
أغلقت عينيها، أخذت نفسًا عميقًا، ثم همست: "إذن، هو أمر الله..."
مرت الأيام، وعاشت زينب في بيت زيد، لكن روحها ظلت معلقةً بشيءٍ لم تفهمه. كان زيد رجلًا طيبًا، لكنها لم تجد فيه ذلك الرباط العاطفي الذي يجعل الزواج عامرًا بالسكينة. حاول زيد أن يتجاهل الحقيقة، لكنه كان رجلًا كريم النفس، لم يكن ليفرض على زينب حياةً تعلم هي وهو أنها لا تصلح.
جاء إلى النبي ﷺ يخبره برغبته في الطلاق، لكن النبي كان يثنيه، ليس لأنه لا يرى الخلاف بينهما، بل لأنه كان يعلم أن في هذه القصة فصلًا لم يُكتب بعد.
وحين صار الفراق أمرًا لا مفر منه، وقع الطلاق، وبدا للجميع أن القصة انتهت. لكن السماء كانت تكتب فصلًا جديدًا، لم يكن أحد يتوقعه، حتى زينب نفسها.
الزواج الذي أعلنه الله من فوق سبع سماوات
لم يمضِ وقتٌ طويل حتى جاء النبي ﷺ هذه المرة لا ليخطب زينب لرجلٍ آخر، بل ليخبرها أن الله زوّجها بنفسه:
"فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌۭ مِّنْهَا وَطَرًۭا زَوَّجْنَـٰكَهَا" (الأحزاب: 37).
لم يكن في هذا الزواج شهودٌ من البشر، بل كان الله هو من أتم العقد من فوق سبع سماوات. في تلك الليلة، جلست زينب وحدها في حجرتها، تتأمل السماء.
لم تكن هذه قصة زواجٍ عادية، لقد كان هذا أمرًا إلهيًا، لكنها كانت تدرك أيضًا أن هذا الزواج سيكون حديث الناس.
ورغم ذلك، لم تكن لتكسر أمر الله، فتزوجت النبي ﷺ، وصارت واحدةً من أمهات المؤمنين، لكن قلبها كان يحمل يقينًا أن هذا الزواج لم يكن مجرد رابطة، بل كان جزءًا من حكمةٍ أكبر.
امرأةٌ خُلقت للكرامة والورع ،والسبّاقة إلى اللحاق به ﷺ
بعد وفاة النبي ﷺ، عاشت زينب حياة زهدٍ وتقوى، فكانت مثالًا للكرم والورع، تُنفق كل ما تملك على الفقراء، حتى أنها لم تترك شيئًا عند وفاتها.
وفي سنة 20 هـ، حين أتاها الموت، كانت أول زوجات النبي ﷺ تلحق به، لتكون سبّاقة في كل شيء، في الطاعة، في الابتلاء، وفي الرحيل.
حينما أُغلقت عيناها للمرة الأخيرة، لم تكن قد تركت وراءها قصرًا ولا كنوزًا، بل تركت ذكرى امرأةٍ كتب الله اسمها في قرآنه، وخلّد قصتها في كتابه العزيز، حتى يظل اسمها شاهدًا على أن من يختاره الله، فإنما يرفعه، مهما بدت الأمور صعبة في أعين البشر.
بعد وفاة النبي ﷺ، لم تكن زينب ممن يتصارعون على الدنيا، بل كانت تعيش في بساطةٍ وزهد، تنفق ما لديها على الفقراء حتى لُقّبت بـ"أم المساكين".
وفي يومٍ ما، حين جاءها الموت، لم يكن في بيتها درهمٌ واحد، لكنها رحلت وهي تعلم أن اسمها قد كُتب في القرآن، وأن قصتها ستبقى خالدةً ما بقي الزمان.
زينب بنت جحش... المرأة التي اختبرها الله فكانت خير من استجاب
حين نذكر زينب بنت جحش، لا نذكر فقط زوجة النبي ﷺ، بل نذكر امرأةً علمتنا أن أقدار الله لا تأتي إلا بخير، وأن القلوب التي تطيع تُكافأ بأعظم الهبات.