السيناريست عماد النشار يكتب: يُحْكَى أنَّ...


كان هناك ديك يصيح كل صباح، يعلن قدوم يوم جديد، يرسم للحياة معانيها الأولى، ويرفض أن يكون شاهدًا صامتًا على الظلام. لكن صاحبه رأى في صياحه خروجًا عن الطاعة، فهدده قائلًا: «إن صِحتَ مرة أخرى، سأنتف ريشك!»
ارتبك الديك، لكنه أقنع نفسه بأن الصمت ليس موتًا، وأن التنازل عن الصوت لا يعني الفناء. وما دام هناك ديوك أخرى تصيح، فلا داعي لإلقاء نفسه في التهلكة. أفتى لنفسه بأن صياحه فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الكل، متبعًا مبدأ أن الضرورات تبيح المحظورات. لكنه لم يدرك أن الطغاة لا يكتفون بالصمت، بل يريدون الخضوع.
عاد الرجل، لكن هذه المرة لم يكن التهديد بنزع الريش كافيًا. اقترب منه وهمس في أذنه بسخرية: «إن لم تقلّد صوت الدجاجة، سأذبحك!»
تردد الديك، نظر حوله، لم يكن هناك من يسانده، لم يكن هناك من يصيح بدلًا منه هذه المرة. شعر بوحدة قاتلة، لكنه كان قد خسر المعركة الأولى حين صمت، فكان الاستسلام الثاني أيسر... فنقنق كالدجاجة. كان صوته مهتزًا، متحشرجًا، لا يشبه صوته القديم. لم يكن يدرك أن كل تنازل صغير هو خطوة نحو الهاوية. لكنه لم يكن يعلم أن الذل باب يُفضي إلى ما هو أفظع.
لم يطل الوقت حتى عاد الرجل مجددًا، تعلو وجهه ابتسامة ساخرة، وقال له: «إن لم تبيض، فسأذبحك!»
وقف الديك عاجزًا، بلا صوت، بلا هوية، بلا كرامة، يدفع ثمن استسلامه خطوة تلو أخرى. حين رضي أن يكون دجاجة، لم يعد بوسعه الاعتراض حين طُلب منه أن يبيض. وحين تنازل عن صوته، خسر نفسه بالكامل. كانت عيناه الزائغتان تمتلئان برعب العاجز، يحدّق في صاحبه الذي ينتظر منه المستحيل. حاول أن يصرخ، لكن صوته كان مكسورًا. أراد أن يعود ديكًا كما كان، لكن الطريق إلى الوراء كان موصدًا.
شعر بالاختناق، وكأن قفصًا حديديًا يُطبق على روحه. أخيرًا، شهق شهقة ندمٍ مريرة، وهتف بصوت كسير: «ليتني متُّ وأنا أصيح!» لكن ندائه جاء متأخرًا... فقد كان السكين أسرع منه.
لكن، هناك من يرفض الصمت...
وكما يحدث في القصص، يحدث في الواقع، لكن مع فرق واحد... بعض الأصوات ترفض أن تُسكت.
في مشهد يوازي القصة، لكن بمضمون أكثر واقعية، وقفت المقاومة الفلسطينية في مواجهة الاحتلال، لكنها لم تصمت، ولم تخضع، ولم تقبل أن تتحول إلى "دجاجة" تردد ما يُملى عليها. بل فرضت معادلتها بذكاء وحنكة، وأدارت مشهد تسليم الأسرى الإسرائيليين بعبقرية سياسية وعسكرية جعلت الاحتلال يقف مذهولًا.
كانت لحظة الحقيقة حين خرج الأسرى الإسرائيليون من قبضة المقاومة، لكن المفاجأة الكبرى التي قصمت ظهر الاحتلال لم تكن في التسليم ذاته، بل في التفاصيل التي رافقته. وقف الأسرى أمام كاميرات العالم، وبينهم أسير لم يتمالك نفسه، فانحنى ليقبّل رأسي اثنين من أبطال المقاومة فوق منصة التسليم، في مشهد إنساني هزّ القناعات المسبقة، وأثبت أن اليد التي أمسكت بالسلاح لم تفقد إنسانيتها، بينما اليد التي تدّعي "المدنية" لا تعرف سوى القهر والتنكيل.
لم يكن هذا مشهدًا عابرًا، بل كان زلزالًا أخلاقيًا ضرب كيان الاحتلال في الصميم. لم يكن هذا مجرد تصرف عفوي، بل كان لحظة كشفت الفارق الأخلاقي بين من يدّعون التحضّر وهم يمارسون البطش، وبين من يحملون السلاح لكنهم لا يفقدون إنسانيتهم. وحدها هذه اللقطة كانت كفيلة بأن تشعل أزمة داخل إسرائيل، فبدأ الإعلام العبري يتحدث عن "العار" و"الإهانة الوطنية"، بينما جنّ جنون نتنياهو، واعتبرها صفعة مدوية على وجه حكومته. لم يستطع استيعاب أن أسيرًا إسرائيليًا اختار بنفسه أن يعترف بفضل من أسره، فخرج بتصريحات متوترة، متوعدًا المقاومة، ومهددًا بإجراءات عقابية، في محاولة يائسة لاستعادة هيبته التي تحطمت أمام شعبه.
لكن الضربة لم تتوقف هنا. المقاومة، بذكاء وحنكة، فجّرت مفاجأة مدوية أمام الكاميرات. فبينما كان الأسرى المفرج عنهم على المنصة، علت فجأة أصوات مألوفة، لكنها لم تكن متوقعة. كان صوت أسيرين إسرائيليين لم يحن وقت إطلاق سراحهما، يناديان من داخل مركبة قريبة: «أنقذوا حياتنا حتى نعود إلى بيوتنا.» شاهدين على الحدث، مؤكدين للعالم كله أن الاتفاق لا يزال قائمًا، وأن الاحتلال لا يمكنه التملص من استحقاقاته.
توقفت الكاميرات، تجمد المشهد، وأصبح واضحًا أن المقاومة لم تُفرج عن جميع أوراقها بعد. كان هذا إعلانًا صريحًا: من يملك الأسرى، يملك القرار؛ ومن يملك القرار، يفرض المعادلة.
اهتزّت حكومة الاحتلال، واشتعل الداخل الإسرائيلي، وبدأت أصوات التمرد تتصاعد، ليجد نتنياهو نفسه محاصرًا، لا يعرف كيف يواجه شعبه بعد هذا الإذلال العلني. لكنه فعل ما يفعله الطغاة دومًا حين تُكسر هيبتهم، لجأ إلى الانتقام والتعنت، فأعلن تأجيل الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين، محاولًا امتصاص الغضب الداخلي. لكنه لم يدرك أن ما كُتب قد كُتب، وأن صور الأسرى وهم يعاملون بإنسانية لن تُمحى من ذاكرة العالم، كما لن تُمحى مشاهد الأسرى الفلسطينيين الذين استقبلهم الاحتلال بالبطش والتنكيل، وأجبرهم على ارتداء قمصان تحمل عبارات تهديد توراتية، بل اقتحم بيوتهم ليمنعهم من الاحتفال بحريتهم.
إن الاحتلال يشبه ذلك الرجل الذي أراد أن يروّض الديك. فحين صمت لم يتركه، وحين أطاع لم يكتفِ، وحين قبل أن يكون دجاجة، طالبه بما هو مستحيل. لكن المقاومة لم تكن ذلك الديك، ولم تكن يومًا قابلة للترويض. لم تصمت يومًا عن الحق، ولم تسمح لأحد بأن يحدد لها كيف تصيح، ولم تقبل أن تبيض امتثالًا لأوامر الطغاة. لهذا، يهاجمها الاحتلال بكل ما أوتي من حقد، ولهذا يخشاها أكثر من أي وقت مضى، لأن المقاومة هي ديك الأمة الذي لم يرضَ الصمت، ولم يُروَّض، ولم يُساوِم، فظلّ يصيح رغم السكين المُسلّطة على عنقه... لعلهم يستيقظون.