الثلاثاء 25 فبراير 2025 11:50 مـ 26 شعبان 1446هـ
أنا حوا

رئيس التحرير محمد الغيطي

المدير العام منى باروما

يحدث الآن
فنون وثقافة

السيناريست عماد النشار يكتب: بين الإدراك والتغافل.. حينما يصبح الوعي منفى والتغافل وطنًا

السيناريست عماد النشار
السيناريست عماد النشار

في مشهد سينمائي شديد الواقعية، يقف رجل في منتصف شارع يعج بالحياة، عيونه تلتقط كل تفصيلة: وجوه عابرة تحمل أسرارها، سيارات تفرّ هاربة من زحام لا نهاية له، ولوحة إعلانية تتغير محتوياتها في كل ثانية، بينما ضجيج المدينة يتغلغل في روحه كإبرة تحقنه بوعي مرهق. إنه مدرك لكل شيء، لكنه ليس سعيدًا.
لكن، هل الإدراك دائمًا مكسبًا؟ هل يكون الوعي، أحيانًا، عبئًا بدلاً من أن يكون نورًا؟
الإدراك الوعي المُنهك، فكما قول دوستويفسكي: "أقسم لكم بأغلظ الأيمان أيها السادة أن شدة الإدراك مرض، مرض حقيقي خطير." هنا لا يبدو الإدراك كنعمة، بل لعنة تثقل الكاهل، تمامًا كما وصفه إميل سيوران: "الوعي لعنة مزمنة، كارثة مهولة، إنه منفانا الحقيقي، فالجهل وطن، والوعي منفى."
إذا كان دوستويفسكي يرى الإدراك مرضًا، فإن سيوران يذهب إلى أبعد من ذلك، إذ يعتبره المنفى الحقيقي للإنسان. الإدراك في حد ذاته ليس مجرد عملية عقلية، بل نافذة تُفتح على حقائق قد لا تحتملها الروح. هو كمن يشاهد فيلماً درامياً بدون قدرة على إيقافه أو تخفيف حدته. أما كافكا، فيحذر من الوجه الأكثر خطورة للوعي، حين يقول: "إذا كان هناك ما هو أشد خطورة من الإفراط في المخدرات، فمن دون شك هو الإفراط في الوعي وإدراك الأشياء."
وفي سياق آخر، يقول برنارد شو: "إن أكثر الأشياءِ التي يرغب الناس بمَعرفتها هي: الأشياء التي لا تخصّهم." وكأن الإدراك لم يكن عبئًا كافيًا حتى قرر البعض أن يثقل كاهله بوعي مستورد من شؤون الآخرين! فالإنسان لا يكتفي بإدراك ما يخصه، بل يسعى، بكل حماسة، لإدراك ما يخص غيره أيضًا، وكأن حل معضلات الكون مرهون بمعرفة لماذا تأخرت جارتهم في الزواج، أو لماذا غيّر فلان وظيفته. وهكذا، يصبح الإدراك رحلة مرهقة لا تنتهي، تبدأ من التساؤل عن معنى الحياة، وتنتهي بتحليل منشورات الغرباء على مواقع التواصل!
لكن ماذا لو كان الحل ليس في الإدراك المطلق ولا في التجاهل التام، بل في مزيج ذكي بين الاثنين؟
هنا يبرز التغافل الذي يعتبر بمثابة الفن الذي يُنقذ الروح، ولننظر على الجانب الآخر من المشهد، حيث يجلس شيخ مُسِنٌّ في مقهى صغير، يُغمض عينيه عن بعض التفاصيل، لا لأنه لا يراها، بل لأنه اختار ألّا يراها. يبتسم ابتسامة خفيفة رغم الضجيج، ويُصافح الحياة وكأنها صديق قديم. إنه يدرك، لكنه يتغافل، يعي لكنه لا يسمح لهذا الوعي بابتلاعه.
التغافل ليس تجاهلًا، بل ذكاء عاطفي راقٍ. هو أن ترى الخطأ ولا تدعه يُفسد يومك، أن تسمع السخرية ولا تُحوِّلها إلى جرح، أن تلتقط العيب لكنك لا تسجّله في قلبك. هو كما قال الإمام الشافعي: "الكيس العاقل هو الفطن المتغافل."
وفي القرآن الكريم، نجد أن النبي يوسف عليه السلام حين اتُّهم ظلمًا بالسرقة من قبل إخوته، لم يواجههم بالغضب أو الألم، بل اختار الصمت والتغافل، كما جاء في قوله تعالى:
"قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ" [يوسف: 77].
وفي السنة النبوية، كان رسول الله ﷺ نموذجًا في التغافل عن الزلات، وعدم التدقيق في الصغائر، كما في حديث عائشة رضي الله عنها عن إحدى عشرة امرأة، حين قالت إحداهن واصفة زوجها: "زوجي إذا دخل فهد، وإذا خرج أسد، ولا يسأل عما عهد." أي أنه يتغافل عن الأمور البسيطة، فلا يُكثر السؤال أو المحاسبة.
التغافل، كما صوّره السلف، ليس ضعفًا بل رحمة، فقد قال الحسن البصري: "ما استقصى كريمٌ قط." أي أن الشخص الكريم لا يدقق في كل صغيرة وكبيرة، بل يترك بعض الأمور تمر حفاظًا على الصفاء.
وما إن ندرك هذه الحقيقة حتى يصبح التغافل أشبه بحاجز يحمي أرواحنا من الاستنزاف، لا تبلدًا ولا هروبًا، بل اختيارًا واعيًا لما يستحق أن نمنحه من انتباه. في بيئة العمل، قد تمر التعليقات السلبية كرياح عابرة، لا تستحق أن تُحمل فوق الأكتاف، فيواصل المرء سيره دون أن يستهلك طاقته فيما لا طائل منه. وفي العلاقات، يصبح التغافل خيط الأمان الذي يمنع التفاصيل الصغيرة من أن تتحول إلى عواصف، فتبدو الحياة أكثر سلاسة، ويغدو القلب أكثر اتساعًا لمن حوله.
ليس المطلوب أن نعيش في ظلام الجهل، ولا أن نُحرق بنار الإدراك المفرط. المطلوب أن نُتقن فن اختيار معاركنا، أن ندرك حين يلزم الإدراك، ونتغافل حين يكون التغافل دربًا للنجاة. وكما يقولون: "الحزن يصيب فقط أولئك الذين يستوعبون."
ربما لم يكن الحل دائمًا في فهم كل شيء، بل في معرفة متى نغلق عيوننا قليلًا لنحمي أرواحنا. فالتغافل الذكي ليس خداعًا للنفس، بل هو استراحة محارب في معركة الحياة. وكما قال أينشتاين: "ليس كل شيء يستحق أن يُفهم حتى آخره."
في النهاية، العالم لن يتوقف إن تغافلنا قليلًا، لكنه قد يُصبح أكثر احتمالًا. الإدراك قوة حينما يكون موجّهًا نحو ما يستحق، لكنه يصبح لعنة حينما يتسلل إلى كل تفصيلة في حياتنا. وكما يقول المثل الياباني: "العين التي ترى كل شيء لا ترى نفسها." ولعل سر الحياة السعيدة ليس في أن نعرف كل شيء، بل في أن نعرف متى نرى، ومتى نغمض أعيننا قليلًا.

السيناريست عماد النشار

أسعار الذهب

متوسط سعر الذهب اليوم بالصاغة بالجنيه المصري
الوحدة والعيار الأسعار بالجنيه المصري
عيار 24 بيع 3,520 شراء 3,543
عيار 22 بيع 3,227 شراء 3,248
عيار 21 بيع 3,080 شراء 3,100
عيار 18 بيع 2,640 شراء 2,657
الاونصة بيع 109,472 شراء 110,183
الجنيه الذهب بيع 24,640 شراء 24,800
الكيلو بيع 3,520,000 شراء 3,542,857
سعر الذهب بمحلات الصاغة تختلف بين منطقة وأخرى

مواقيت الصلاة

الثلاثاء 11:50 مـ
26 شعبان 1446 هـ 25 فبراير 2025 م
مصر
الفجر 04:59
الشروق 06:25
الظهر 12:08
العصر 15:24
المغرب 17:51
العشاء 19:08