السيناريست عماد النشار يكتب: جبرتي القرن ومستقبل الدراما


نحن على موعد مع مؤتمر "مستقبل الدراما" المزمع انعقاده خلال الأيام المقبلة، وسط ردود أفعال متباينة، غلبت عليها نبرة التشكيك والهجوم.
جاء ذلك نتيجة استبعاد عدد من أهل الخبرة والكفاءة، لصالح لجنة وشخصيات تمت دعوتها دون أن يكون لها حضور أو تأثير يُذكر في الوسط الدرامي، سواء من حيث التجربة أو الرصيد المهني.
ورغم هذه التحفظات، دعونا نتفاءل ونحسن الظن، ونوجّه أنظار القائمين على المؤتمر إلى قضايا جوهرية تستحق أن تكون في صلب النقاش، وعلى رأسها أهمية الفيلم القصير، بكل ما يحمله من أبعاد فنية ومادية.
اقرأ أيضاً
السيناريست عماد النشار يكتب: لجنة صنع الله إبراهيم لمستقبل الدراما!
السيناريست عماد النشار يكتب: سماء من ورق
السيناريست عماد النشار يكتب: وَهُمْ مِنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَيَغْلِبُونَ
السيناريست عماد النشار يكتب: فن عشق القراءة
السيناريست عماد النشار يكتب: أنقذوا الطبيب محمود قنيبر قبل أن نفقده للأبد!
السيناريست عماد النشار يكتب: الحقّ ينتصر بذاته وبأدواته
السيناريست عماد النشار يكتب: سَنَوَاتٌ بِلَا بَرَكَةٍ.. وَعَاصِفَةٌ عَلَى كُلِّ الطُّرُقِ
السيناريست عماد النشار يكتب: إحنا آسفين يا زمان!
السيناريست عماد النشار يكتب: قَطَايفُ سَامِحٍ وَقِطَّةُ مِهْسَاسٍ
السيناريست عماد النشار يكتب: العَالَمُ يُدَارُ بِمِقْيَاسِ بُرُوكْرِسْت
السيناريست عماد النشار يكتب: إلى ربات ”الروبوت”!
السيناريست عماد النشار يكتب: العالم في حالة هذيان.. الجنون يجتاح السياسة والمجتمع والإعلام
فالفيلم القصير ليس مجرد شكل إنتاجي بسيط، بل هو مساحة خصبة للتجريب والتكثيف والتعبير الفني، ويُعد مدخلًا حيويًا لاكتشاف المواهب وصناعة الأفكار الجديدة.
من غير المنطقي تجاهله إذا كنا نبحث فعلاً عن مستقبل شامل للدراما.
كما نأمل أن يسهم هذا المؤتمر في تصحيح بعض المفاهيم المغلوطة التي ترسخت في أذهان الكثيرين، وفي مقدمتها الفهم الضيق لمفهوم "الدراما". فالدراما ليست حكرًا على المسلسلات التلفزيونية كما يُروّج، وليست مقتصرة على نوع واحد كالتراجيديا أو المأساة.
الدراما، في أصل معناها، كلمة يونانية تعني "الفعل" أو "الحدث"، وهي تشير إلى كل ما يُقدَّم من قصص مبنية على الصراع والشخصيات والحبكة.
وتشمل الدراما مختلف الوسائط: المسرح، والسينما، والتلفزيون، والإذاعة، كما تظهر في القصة القصيرة، والرواية، بل وحتى في القصيدة التي تتسم ببنية درامية.
أما من حيث النوع، فالدّراما ليست فقط مأساة، بل تشمل الكوميديا، والدراما النفسية، والفانتازيا، والخيال العلمي، والدراما الواقعية، والتاريخية، وغيرها، وكل هذه الألوان تندرج تحت مصطلح الدراما.
إذن، عندما نتحدث عن "مستقبل الدراما"، علينا أن نوسّع الدائرة، وننظر إلى هذا الفن الإنساني الشامل برؤية أكثر عمقًا وشمولية، تحفظ له تنوعه، وتحترم تجاربه، وتفتح أبوابه أمام كل من يملك شيئًا حقيقيًا ليقدّمه.
يتميّز الفيلم القصير بكونه مساحة حرة للإبداع، يتيح لصُنّاعه تجربة أفكار جديدة خارج القيود التجارية، كما أنه منخفض التكلفة مقارنة بالأعمال الطويلة، ما يجعله فرصة مثالية لاكتشاف المواهب الشابة وإبراز قدراتهم.
وبفضل قصر مدة عرضه، يجذب الجمهور بسهولة ويُحدث تأثيرًا كبيرًا في وقت وجيز، مما يمنحه قوة تعبيرية مكثفة لا تقل عن الأعمال الطويلة.
في زمنٍ تهيمن عليه الصورة وتُختصر فيه الحكاية بلقطة أو مشهد، لم تعد كتابة التاريخ حكرًا على المؤرخين التقليديين، بل ظهرت وسائط جديدة توثق لحظاتنا الإنسانية بطريقة أكثر قربًا وتأثيرًا. من هنا، أصبح الفيلم القصير هو "جبرتي القرن" الحديث.
يُعد عبد الرحمن الجبرتي (1753–1825) واحدًا من أبرز المؤرخين في العالم العربي، وقد تميز بدقته، حياده، وصدقه في توثيق الأحداث التي عاشها، خاصة في كتابه الشهير "عجائب الآثار في التراجم والأخبار".
لم يكن الجبرتي مجرد ناقل أخبار، بل كان شاهدًا حيًا على عصره، يدوّن ما يرى ويسمع بعين الإنسان المحب لوطنه لا بخطاب السلطة أو أهواء النخبة.
وقد قال في وصف منهجه: "ولم أقصد بجمعه خدمة ذي جاه كبير، أو طاعة وزير أو أمير... ولا أكتب حادثة حتى أتحقق من صحتها، فأكتبها في طيارة – أي قصاصة ورق – حتى أقيّدها في محلها."
كأننا نسمع هنا صوت كاتب سيناريو فيلم قصير، لا مؤرخًا عاش في القرن الثامن عشر.
ففي عالمٍ لا تتوقف فيه الشاشات عن البث، أصبح الفيلم القصير وسيلة فعّالة لتوثيق الواقع بلغة سريعة، مكثفة، وبصرية ليكون مؤرخًا بصريًا جديدًا.
ليس المقصود هنا الفيلم الوثائقي بالضرورة، بل كل أنماط الفيلم القصير: الدرامي، الاجتماعي، التجريبي، وحتى الكوميدي، طالما أنه يرصد لحظة إنسانية صادقة تمثل جزءًا من الواقع وتكشف شيئًا من روح العصر.
الفيلم القصير، كوسيط، يُشبه كثيرًا نهج الجبرتي في الرصد والتوثيق،التركيز على مشهد واحد أو حدث بعينه،الاعتماد على الدقة والملاحظة العميقة،عرض الحدث من منظور إنساني، لا سياسي أو دعائي،تقديم "شخصية" تمثل زمانها، مثلما قدّم الجبرتي شخوص عصره.
ففي عصر الفيض المعلوماتي، نحتاج إلى أدوات توثيق أكثر عمقًا وصدقًا. الأخبار تتغير في لحظة، والمحتوى العابر يغرق المتلقي، لكن الفيلم القصير قادر على "اصطياد" لحظة إنسانية واحدة وتقديمها بتركيز عاطفي وبصري لا يُنسى.
ولعل أبرز ما يميز هذه الأفلام أنها لا تتبنى وجهة نظر سلطوية، بل تأتي من صناع مستقلين، هواة أو محترفين، يحملون الكاميرا كما كان الجبرتي يحمل قصاصاته: بدافع حب الحقيقة.
الفيلم القصير اليوم، حين يُصنع بعين الباحث عن المعنى، يصبح وثيقة بصرية لزمنه، ومرآة لحال الناس، شأنه في ذلك شأن مخطوطة تاريخية كُتبت في وقتها، بصدق وحيادية.
إنه ليس مجرد فن، بل تأريخ حديث بصوت الصورة... ولهذا نستطيع أن نقول، مجازًا، إن كل فيلم قصير صادق قد يكون "جبرتيًا" صغيرًا، يوثق لحظتنا، مشاعرنا، وهويتنا وسط زحام المتغيرات.
ربما لم يكن الجبرتي ليتخيل يومًا أن طريقته في الرصد ستُعيد تشكيلها كاميرا صغيرة وعدسة تلتقط "طيارة" بصرية جديدة.
لكن الرسالة التي تركها باقية: الإنسان هو محور الحكاية، والصورة الصادقة قد تكون أصدق من آلاف الكلمات.