وفاء أنور تكتب: هى وأنا.. ورسالة إليكم


هى فتاة جامعية رقيقة يملؤها الحياء، يضيف إلى جمال إطلالتها الحلوة جمالًا آخر، كنت قد التقيت بها في إحدى الندوات المعنية بتقديم الخدمة للمجتمع، ربما توسمت بي شيئًا ما جذبها إلىّ، قررت الاقتراب مني، بل وتأهبت للحديث معي، فاجئتني بأنها تتابع كتاباتي، وتعجبها الخاصة بالحديث عن ضرورة الاهتمام بالأسرة وتنشئة الطفل، نظرت إليها ممتنة وشاكرة، متأهبة للاستماع لقصة كانت تلوح بالأفق، حكاية روتها عيناها فقط، فدنوت منها ريثما تطمئن فتقرر إزاحة الستار عن قصتها التي أرقتها على ما بدا لي، حكاية كنت أجهلها لكني أحسست بها حين طالعتها على استحياء عيني، بينما كانت تتراجع هى عن إطلاعي بسر شق عليها أن تخفيه.
تملكني إحساس قوي بأنها لم تعد تحتمل الكتمان وبأنها ستتهيأ لسرد حكايات حزنها وألمها، وبالفعل بدأت في الحديث معي قائلة: كنا نستيقظ على أصوات مختلطة تبدأ هادئة في البداية ثم تزداد حدتها، تتلاطم كأمواج مسحورة تعلو وتنخفض فتبعث لي أنا وإخوتي بإشارات غير مطمئنة، تبدأ من بعدها معالم الخلاف في الظهور شيئًا فشيئًا، كنا حينها نهرع إلى الاختباء داخل أنفسنا خوفًا وحذرًا من موجات غضب مدمرة ستأتينا بعنفوانها، نرتجف فنختبيء تحت جلودنا، ما أسوأ الخلافات التي كانت تتجدد بين كل لحظة وأخرى.
كثيرًا ما كنا نوجه اللعنات لظروف أوجدتنا في ظل أسرة لا توفر لنا حياة أسرية سعيدة وآمنة، غالبًا ما كنا نستسلم لفكرة إرجاء الأمر بأكمله للمستقبل بعد أن فقدنا الأمل في تغيير هذا الذي نمر به، نحدث أنفسنا بأننا ما زلنا صغارًا لا نملك من أمرنا شيئًا، وبأننا حين نكبر سوف نجنب أبناءنا ما يحدث لنا هنا تحت سقف منزل لا يوفر أدنى شعور بالأمن لمن بداخله، كانت كل لحظة تمر بنا هى عبارة عن وقفة أمام أنفسنا، نقف أمام مرآة بؤسنا فتعرض علينا صورنا الباهتة الشاحبة، تبعث برسائلها إلينا، قائلة: أيها الصغار لا تخشوا شيئًا، لكننا لم نكن نعرف إلا الخوف رفيقًا لنا، كنا نكذب حديثها وننصرف عنها بعد أن نكاد أن نجهز عليها ونحطمها.
اقرأ أيضاً
غادة إسماعيل تكتب: مدينة وقصة (5)
فاطمة عمر تكتب: وردية مطبخ
غادة إسماعيل تكتب: مدينة وقصة (4)
ابتهال عبد الوهاب تكتب: الدراما والتفكير الجمعي
غادة إسماعيل تكتب: مدينة وقصة (3)
ماجدة موريس تكتب: لا أرض أخرى
غادة إسماعيل تكتب: مدينة وقصة (2)
هند الصنعاني تكتب: وصفة رمضانية.. طريقة عمل مسلسل في رمضان
غادة إسماعيل تكتب: مدينة وقصة
د. مي محمد الغيطي تكتب: أفلام الرعب كعلاج غير متوقع للقلق في عالم مضطرب
هند الصنعاني تكتب: قريبا على التيك توك.. جائزة أفضل متسول لسنة 2025
هند الصنعاني تكتب: العالم الآخر.. بين التضليل والهوس بالمغرب
كانت تتدخل أحيانًا بين والدينا تلك الأصوات الراشدة العاقلة، تحاول انتزاعنا من بين جنون لا ينضب آت من تحكم أب وعناد أم، تسعى بقدر كبير وربما مستمر لكسر حاجز الاختلاف الذي يفرق شملنا ولا يجمعه، ندور وسط هذا الصراع، ننتظر لحظة عودة الرشد البعيدة، لكنها كانت تذهب إلى مجهول لم يضعنا في حسبانه، لم يرحم طفولة ألقت بنا بين أبوين لا يهتمان بوجودنا، بسلامنا النفسي، لا يؤثر فيهما ما سيتبقى لنا من ذكريات هى الأدهى والأمّر.
ذابت ملامح طفولتنا وتلاشت في مزيج جمع بين نزاع وحمق، تعرضنا في بوتقته لتوافه أمور لا ندركها ولا نعلم لها مسمى، كنا ننتفض كعصفور صغير ابتل ريشه فارتجف بشدة تحت المطر، وكلما بادر بنثر الماء المنهمر عنه كلما زادت حاجته للدفء، للكثير من الاهتمام والحب الغائبين عن وكره الذي لم يعد باستطاعته أن يحميه فهو الهش الضعيف الذي يفتقد لشروط أمنه وسلامته.
أخبريني بأي ذنب نتعرض لتلك الأهوال التي تنأى عن حملها الجبال لا البشر؟ ما الجرم الذي اقترفناه ونحن صغار ما زلنا في مقتبل العمر؟ أليس من الواجب أن يضع المجتمع حلًا لمشكلتنا هذه؟ المشكلة التي عاثت بقلوبنا فسادًا، أخفت أنينًا لا ينتبه له إلا القليل -فضلًا- أبلغيهم بالأمر فكل ما أخشاه أن يمر جيل آخر بكل ما مررت به، أبلغتك رسالتي فسلميها إليهم.