الكاتبة الكبيرة د سحر الموجي تكتب لـ أنا حوا: سوبر مان
تهادت الفلوكة فوق صفحة النيل بعيدا عن الكورنيش، وتنفست العرَّافة وهى تتأمل وجه «هدى» المجهد. لقد أصرت على أن تمر عليها وتأخذها بعيدا عن صخب القاهرة ولو لساعتين. ربما هذا ما تحتاجه صاحبتها بعد الأزمة الصحية التى تعرضت لها منذ أيام. تدهورت صحة «هدى» فى العامين الماضيين، بدأ جسدها يعانى من تشكيلة منتقاة من الوعكات المتتالية: أزمات ارتفاع الضغط وصداع مستمر وأوجاع فى المعدة ومتاعب فى القولون، وتصاعد الـ«كريشندو» وصولا إلى ضيق فى شرايين القلب. حكت «هدى» للعرَّافة كيف شعرت أثناء اجتماع عمل منذ يومين بتنميل فى ذراعها وألم فى الصدر. كتب لها الطبيب أدوية سيولة ونصحها براحة أسبوعين. لكن «هدى» قالت إن يومين أو ثلاثة تكفى، فهناك أطنان من العمل والمسؤوليات فى انتظارها. قالت العرَّافة: «لابد أن تتخلصى من أخينا السوبرمان المنقذ الذى بداخلك، فهو لا يعرف متى يتوقف». ضحكت «هدى»: «أنا سوبرمان طبعا. أنتِ تعرفين قناعتى أننى قادرة على إنقاذ العالم». تجاهلت العرَّافة نبرة المزاح فى صوت صاحبتها، فقد كانت هذه طريقتها فى تفادى حوار قديم. لطالما تحدثتا معا فى هذا الجانب من شخصيتها الذى يجعلها تندفع للعمل فى مشاريع والتطوع فى مبادرات لا تتوقف، بالإضافة إلى عملها وبيتها، وينتهى بها الأمر إلى حالة تشتت وإنهاك تصحبها شكاوى وإنذارات من جسدها. لكن «هدى» لا تتوقف، فهى تخرج من «نقرة» لتندفع إلى «دحديرة». اختفى ضجيج القاهرة مع اقتراب الفلوكة من الشاطئ الآخر. فى السادسة مساء كان الهواء قد ازداد طراوة ودار حولهما محملا برائحة الأرض المبتلة. قالت العرَّافة: «أنا مخطئة، لن تستطيعى التخلص من سوبرمان، فهو جزء حقيقى فيكِ،
كما أنه احتياج عميق: أن نشعر أن ما نفعله يحدث تغييرا. والمنقذ موجود لدينا بدرجات متفاوتة. إنه الجدع العطَّاء الذى يشعر بمسؤوليته تجاه الحياة. وهو رائع طالما بقى فى حجمه الطبيعى، يظهر فقط عند الحاجة. لكننى أعتقد أنه فى حالتك قد أمسك بالزمام!». هزت «هدى» رأسها: «أنا متعبة جدا». قالت العرَّافة: «أنتِ أكثر من متعبة. إن جسدك بدأ بالشكوى والتحذير، وها هو الآن يصرخ فيكِ أن تتوقفى». سكتت وتأملت وجه «هدى» وهى تتابع سقوط الشمس البرتقالية وراء الشاطئ الأخضر، ثم قالت: «لا تتخلصى من سوبرمان. تأكدى فقط أنه مثلما يهتم بأزمات البشرية ويصعب عليه أن يرفض مساعدة من يطرق بابه، فهو ينصت إلى احتياجاتك العميقة، بما أنك جزء من العالم. والاحتياج قد يكون ساعات من الصمت، وقد يتطلب تغيير أسلوب حياة!». قالت «هدى»: «الحقيقة أننى لا أعرف ما هى احتياجاتى!». ردت العرَّافة: «ومن سيعرفها غيرك؟ أنا مثلا أحتاج كل فترة إلى فسحة وقت أقضيها مع نفسى فى هدوء، أرتب أولوياتى، أختار أين أوجه طاقتى، وأنصت إلى جسدى وما يحمله من رسائل وحكايات». مرت الأفكار فى رأس «هدى». لقد احتل المنقذ حياتها، هذه حقيقة. حتى القراءة- التى كانت شغفها الأكبر- توقفت عنها منذ سنوات. أصبحت الحياة سلسلة من الأزمات التى تنتظر حلولا، والكوارث التى تحاول منعها قبل الوقوع. وعندما يخذلها جسدها، فهى تزجره وتضغط عليه وتُصر أن تجرجره معها من معركة إلى معركة. لكنها الآن تشعر بالعطش لشىء ما لا تستطيع تحديد كنهه! جسدها كالأرض الجافة المتشققة. روحها تهفو إلى الماء. وهى لا تعرف أين تجد الماء أو كيف! أفاقت «هدى» على اقتراب الفلوكة من المرسى. ابتسمت للعرَّافة وتكلمت كمن تحدث نفسها: «تفتكرى لو طلبت من سوبرمان أن ينقذنى، هل سيفعل شيئا؟».