سامح عسكر يكتب.. الترحم على موتى غير المسلمين معضلة سياسية وليست دينية
بالنسبة لفتوى عدم الترحم على موتى غير المسلمين سببها 4 أشياء
أولا: يستدلون بقصة موت أبي طالب عم رسول الله، وأنه مع صلاح غير المسلمين أخلاقيًا لكن عدم إيمانه ببعثة الرسول يجعله كافرًا مخلدًا في النار، وبالتالي فالقياس يحدث على موت أي شخص غير مسلم فورًا، أنه لو جاز الاستغفار والترحم على أبي طالب لجاز الترحم والاستغفار لغيره.
ثانيًا: يستدلون بعموم قوله تعالى "ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم" [التوبة : 113] وهي مرتبطة بقصة أبي طالب وأبويّ الرسول عبدالله وآمنة بنت وهب، لكن يحملون معناها على العموم أن الخطاب هنا للنبي والذين آمنوا بشكل عام، وفيه نهي صريح عن الاستغفار للمشركين، علما بأن غير المسلم في العقيدة هو (مشرك كافر) عند الجمهور، وقصة التفريق بين هذه المصطلحات لم يجتهد فيها أحد منهم بعد.
اقرأ أيضاً
ثالثًا: يستدلون بعموم قوله تعالى "وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم [التوبة : 114] وفيها أن الاستغفار للمشركين جهل يجب التبرؤ منه حين العلم بأن الميت هو كافر عدو لله، وهنا يخلطون بين غير المسلم وأعداء الله، فيظنون أن كل غير مسلم هو عدو لله بالضرورة.
رابعًا: يستدلون بعموم قوله تعالى "سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم " [المنافقون : 6] وقوله "ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون" [التوبة : 84] والآيات فيها نهي صريح عن الاستغفار وفقا لمذهبهم ولا حتى الصلاة على أمواتهم بما يؤدي لتحريم العزاء بالضرورة.
بالنسبة للسببين الأول والثاني فقد كتب شيخ الشافعية الحجازي "أحمد بن زيني دحلان" كتابًا مشهورًا ينصف فيه أبي طالب عم رسول الله اسمه "أسني المطالب في نجاة أبي طالب"، قال فيه أنه مؤمنًا صالحًا ومات على الإيمان خلافا للمشهور، وأن الذين وضعوا قصة كفر أبي طالب وحديث الجمرة التي سيغلي بها دماغه هم "الأمويون النواصب" الكارهين لآل البيت كيدا في الإمام علي، فالخلفاء الأمويون كانوا يستدلون على شرعيتهم السياسية ضد الهاشميين بأن جدهم الأكبر "أبو سفيان بن حرب" مؤمنًا وصحابيًا صالحًا، لكن الهاشميين جدهم الأكبر "أبي طالب" كافرًا مشركًا، وظل هذا المعتقد طوال الفترة الأموية وضعت فيه كافة أحاديث كفر أبي طالب.. التي ما زال يرددها السلفيون حتى اليوم ولا يدركون أبعادها السياسية.
ليس هذا فقط فالإمام السيوطي كتاب.."التعظيم والمنة في أن أبوي رسول الله في الجنة".. بتحقيق الشيخ حسنين مخلوف مفتي الديار الأسبق.. رد فيه كل الأحاديث القائلة بكفر أبويّ الرسول، وبالتالي سقوط كافة تفاسير آيات سورة التوبة التي تصرح بعدم الاستغفار للمشركين.. علاوة على أن سورتي "التوبة والمنافقون" مدنيتان، بينما أبي طالب مات قبل الهجرة، وهذا غريب، كيف ينزل الله آيات في كفر أبي طالب بعد موته ب 10 سنوات على الأقل؟ ولماذا لم تنزل هذه الآيات في مكة وقت وقوع الحدث؟!.
بالنسبة للسبب الثالث فالرد عليه سهل وميسور، فالله بسورة إبراهيم يقول على لسان نبيه إبراهيم "ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب" [إبراهيم : 41] ووالد إبراهيم كان مشركًا، ورغم ذلك استغفر له إبراهيم، فالشيوخ قالوا أن آية سورة التوبة نسخت هذه الآية، وبالتالي صار قوله تعالى "وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم" [التوبة : 114] نسخت دعاء ابراهيم لأبيه "رب اغفر لي ولوالدي".
وقولهم ذلك سببه الخلط بين الشرك والعداء مع الله، فليس كل مشرك هو عدو لله في الحقيقة، وبالتالي كل غير مسلم ليس بالضرورة أن يكون عدوّا لله، إنما فقه المعاملات مع الآخر مبني على القتال والجهاد بالعموم، فالفقهاء لم يتخلصوا بعد من سطوة الفتوحات والغزوات، وكل غير المسلمين هم أعداء مؤكدين أو محتملين.. بينما القرآن يفصل بين الاثنين بشكل واضح، ففي سورة إبراهيم (المكية) يدعو النبي لأبيه ويستغفر له رغم كونه غير مسلما، لكن في سورة التوبة (المدنية) يكون النهي عن الاستغفار بعلة واضحة في النص هي (فلما تبين له أنه عدو لله) وبالتالي تحقق الفارق بين عدو الله وغير المسلم، فالأول محارب أما الثاني مُسالِم.. وكل فتوى بعدم الترحم والاستغفار على أموات غير المسلمين مصدرها الاعتقاد بأن كل غير المسلمين (محاربون).
هذا لا يعني إيماني بتقييد الرحمة أو عدم الاستغفار لأي شخص بدعوى أنه عدو الله، فالعداء نسبي، وحادثة تراجع ابراهيم عن الاستغفار لم تأخذ صفة الحكم الأبدي إنما هي تصرف شخصي منه كحادثة تحطيم الأصنام الشهيرة.. وحكايتها في القرآن لا تعني وجوب (البراءة من الآباء والأمهات) فتبرؤ إبراهيم من أبيه ليس شرعا ولم يقال أنه شريعة..بل في المقابل نزلت آيات صريحة تأمر ببر الوالدين ومخاطبتهم بأحسن ما يكون حتى لو كان على غير الإسلام كقوله تعالى "ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما" [العنكبوت : 8] وقال أيضا "وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفًا" [لقمان : 15].
تخيل.. فالمؤمن واجب عليه أن يصاحب أبويه المشركين ويعاملهم معاملة حسنة
أما بالنسبة للسبب الرابع فهو خاص بالمنافقين الذين كادوا للدعوة في يثرب، وسياق الآيات خاص بمواجهة هؤلاء والحذر منهم، وبالتالي هي آيات مقيدة لا تأخذ صفة العموم ولا يصح إسقاطها خارح ظرفها الزمكاني، فالنفاق عمل قلبي لا يعلمه إلا الله..وما ظهر من النفاق لا يكون حجة لإطلاق الصفة على الشخص بالعموم، حيث قيل أنه من آيات النفاق "إذا حدث كذب وإذا اؤتمن خان وإذا عاهد غدر" وهذه الصفات الذميمة كلها (الكذب والخيانة والغدر) ليست دائمة في الإنسان، فالبشر يتقلبون بين كذب وصدق، بين خيانة وأمانة، وبين غدر ووفاء..وسبحان من له الدوام والكمال.
أختم بأن الترحم والاستغفار هو عمل (أدبي) ليس ديني أو سياسي، ومعنى الأدب أي هو أخلاق رفيعة من الإنسان يقصد منها التواصل والمحبة مع الآخر، وفي القرآن عشرات الآيات التي تحض على حسن المعاملة واحترام المخالف، ومن ينكر هذه الآيات ويقدم عليها الروايات والأخبار سيصل به الأمر إلى قتال كل من يخالفه الرأي، واعلم أن الجنة والرحمة ليست ملكا لأحد على الإطلاق.. بل هي حق حصري للخالق جل وعلا، ومن يقيد هذه الرحمة فيحجبها عن من يكرهه ويعطيها لمن يحبه فقد تألى على الله ونسب إلى الدين ما ليس فيه.. ودمتم.