السيناريست عماد النشار يكتب: زي الفل.. حين يكتب الألم شهادة للحياة


حين يكتب الكاتب محنته، لا يخطها بالحبر، بل ينقشها بنبض الألم وصدى التجربة.
وجد محمد السيد نفسه وجهًا لوجه مع المرض، ليس مجرد ورم خبيث يتسلل إلى جسده، بل زلزال يهز يقينه، يحاصره بين جدران المستشفى الباردة ونظرات الشفقة. لم تكن معركته فقط مع الألم، بل مع منظومة صحية مرتبكة، مع محاولات تطبيع المعاناة تحت ستار كلمات جوفاء مثل "زي الفل".
لكنه لم يستسلم للصمت. كتب ليواجه، ليكشف الخلل، ليمنح الألم صوتًا لا يمكن تجاهله. لم يكن نصه مجرد اعتراف، بل شهادة حية، وصيحة تحدٍّ في وجه الحياة التي قررت أن تختبره حتى أقصى الحدود.
"زي الفل"... حين يتحول الألم إلى كوميديا سوداء!
(المشهد الافتتاحي - لقطة مقربة)
الكاميرا تقترب ببطء من وجهه الشاحب، عينيه المتعبة تحدقان في سقف المستشفى. يحيط به ضوء بارد، وساعة الحائط تدق بإيقاع كئيب. في الخلفية، يتردد صدى عبارات الأطباء: "الحالة متأخرة جدًا... يجب إجراء العملية فورًا!". يتنفس بعمق، يبتسم نصف ابتسامة، ويردد في سره: "أنا زي الفل!"
هكذا تبدأ رحلة الكاتب محمد السيد في كتابه "زي الفل"، حيث يتخذ من السرطان شريكًا غير مرحب به، ومن المستشفيات ساحات معركة، ومن الأطباء شخصيات في مسرحية عبثية. لكنه لا يستسلم! بل يحوّل معاناته إلى قصة مؤثرة، مرّة، وساخرة في آنٍ واحد.
(المشهد الأول - تشخيص الصدمة)
في أحد ليالي نوفمبر الباردة، لم يكن يعلم أن آلام معدته ليست مجرد "نغزات موحشة"، بل دعوة غير مرغوب فيها لحضور حفلة طبية بائسة. بدأ كل شيء بجملة الطبيب: "أنت محتاج سونار حالًا!". ومن هنا، انطلق قطار التحاليل، المسح البيولوجي، والرنين المغناطيسي الذي وصفه الكاتب بأنه أقرب إلى "ليلة حنّة صاخبة، ولكن بدون زغاريد، فقط ضوضاء تنخر الدماغ!"
الصدمة لم تكن في تشخيص المرض فقط، بل في أسلوب الأطباء الذين أعلنوا حالته ببرود عجيب، وكأنهم يخبرونه بتغيير في جدول مواعيده لا أكثر. تخيل أن يخبرك أحدهم: "أنت مريض سرطان... وحالتك متأخرة جدًا، لازم عملية فورًا"، ثم ينهي كلامه بعبارة "زي الفل!"، وكأنه يصف لك طقس اليوم!
(المشهد الثاني - المستشفى: مسرح العبث!)
ما إن وطأت قدماه المستشفى، حتى شعر أنه تحول إلى فأر تجارب في مختبر بشري. كان المكان مزدحمًا بالمرضى، حيث يتشارك ثمانية أشخاص عنبرًا واحدًا، والتهوية مجرد فكرة نظرية، والراحة؟ رفاهية لا مكان لها هنا.
أما الأطباء، فهم نجوم العرض! طبيب يسلمه لمساعده دون أن يشرح له شيئًا، وآخر يقرر تغيير الجدول في اللحظة الأخيرة، بل إن الجراح الذي أجرى له العملية اختفى تمامًا بعد خروجه من المستشفى، وكأنه لم يكن موجودًا من الأساس! تخيل أن تبحث عن طبيبك، فلا تجده، ولا حتى على تطبيق "واتساب"!
وإذا كنت تتساءل عن النتائج، فقد خرج الكاتب من عمليته الأولى بثقب إضافي في المعدة كهدية مجانية!، مما استدعى عملية أخرى لتصحيح الخطأ. وكالعادة، الطبيب الجديد ينظر إليه مطمئنًا ويقول: "زي الفل!"، بينما جسده يتهاوى من الألم.
(المشهد الثالث - الكيماوي وصراع الإرادة!)
العلاج الكيماوي؟ تجربة لا ينصح بها أحد! الجرعات الثقيلة، الغثيان، سقوط الشعر، فقدان الشهية، وأطنان من النصائح غير المطلوبة من كل من يقابله:
"لا تأكل السمك، يتعارض مع الكيماوي!"
"اشرب أعشاب سحرية، تشفي السرطان!"
"لا تبحث عن الأعراض في جوجل، ستصاب بالذعر!"
في النهاية، تعلم أن الإنترنت عدو المرضى المذعورين، لكنه الصديق المفضل للأوهام!
(المشهد الرابع - الكوميديا السوداء للطعام والتمريض)
هل يمكنك تخيل أنك تطلب وجبة معينة كل يوم، لكنها تأتيك معادة التدوير بطعم ومكونات جديدة؟ كانت دكتورة التغذية تأتي إليه كل صباح بابتسامة خفية، تسجل طلباته بدقة، ثم تتجاهلها تمامًا! حتى أنه بدأ يشك أنها مجرد "شبح وظيفي" يتجول بين الغرف ليجري تجربة اجتماعية على المرضى.
أما الممرضات، فكنّ مزيجًا من ملائكة الرحمة وكائنات الإدارة الصارمة. بعضهن كنّ يتعاملن بلطف، وبعضهن كنّ يرين المرضى مجرد أرقام. واحدة نسيته تمامًا في دورة المحاليل، وأخرى أعطته حقنة منسية بدون أن تراجع ملفه الطبي!.
لكنه لا ينكر أن هناك أبطالًا حقيقيين، أمثال الطبيب "زياد"، الذي لم يكن مجرد طبيب ، بل كان صديقًا ومعالج نفسيًا.
(المشهد الخامس - المستشفى: حيث تنعدم الخصوصية!)
نسي الكاتب معنى "الخصوصية" تمامًا داخل المستشفى. فأنت هنا تفقد الحق في اختيار ملابسك، التحكم في وقت نومك، وحتى مشاهدة التلفاز! لم يكن الريموت ملكًا له، بل للمرافق الذي يفرض عليه مشاهدة "الميراث" و"مسلسلات التركية المدبلجة"، وكأن فقدان الحرية الجسدية لم يكن كافيًا!
أما النوم؟ حلم بعيد المنال! فكلما أغمض عينيه ممرضة تأتي لتسحب عينة دم،أوطبيب يدخل ليفحص ضغطه.وعامل نظافة يأتي ليعيد ترتيب غرفته بينما هو على سريره!
(المشهد السادس - الحب وسط الفوضى)
وسط كل هذه الفوضى، كان هناك نور صغير: الحب. لم يكن وحده في هذه الرحلة. شقيقته التوأم وزوجها كانا السند، أصدقاؤه لم يتركوه، ورئيس تحرير "الهلال" منحه فرصة العودة للكتابة رغم ألمه.
رغم الجروح، رغم الأوجاع، رغم كل ما فقده، اكتشف شيئًا لم يكن يدركه: "في لحظات المرض، لا تبقى إلا العلاقات الحقيقية، أما الزيف، فيتلاشى!"
(المشهد الختامي - الكاميرا تبتعد ببطء، الموسيقى تتصاعد)
يجلس على سريره، ينظر من النافذة. الشمس تشرق، لكنه ما زال هنا، عالقًا بين الأمل واليأس، بين القوة والضعف. تتسارع أنفاسه للحظة، وكأن جسده يخوض معركة أخيرة بين الإنهاك والتشبث بالحياة.يمد يده، يضعها على قلبه، يتحسس نبضه، كمن يتأكد أنه لا يزال هنا، لا يزال يقاوم، لا يزال للحياة متسع بين الألم والرجاء،يغمض عينيه قليلًا، فتتلاشى ضوضاء المستشفى، ويخفت صدى الألم في أعماقه.
الإضاءة تخفت، الشاشة تتحول إلى اللون الأسود،لكن فجأة، تسطع الشاشة بوهج شمس الأمل، تملأ الأفق نورًا، وكأن الحياة نفسها تعيد تأكيد وعدها بأن الغد قد يكون أفضل، وأن مع كل ألم يولد ضوء جديد.
يبتسم، يحمل دفتره ، يلتقط قلمه ويكتب :
"القادم أجمل... يا رب يكون زي الفل!"
ويظهر العنوان الأخير: "بعض القصص تُحكى، وبعضها تُعاش، لكن القليل منها يبقى خالدًا في الوجدان!"
بين جدران المستشفى الباردة، كان محمد السيد لا يزال الكاتب، يحول محنته إلى حكاية، والمأساة إلى سرد يحاول أن يروض الوجع. كان الألم يفتك بجسده، لكنه لم ينجح في إسكات صوته. كتب ليواجه، ليعري الخلل في المنظومة الطبية، وليمنح المعاناة صوتًا لا يمكن تجاهله. لم يكن يسعى للتعاطف، بل أراد أن يجعل من كلماته شهادة حية، تنقل ما يعجز عنه الكلام العابر.
"زي الفل" لم يكن مجرد نص عن المرض، بل كان مرآة تعكس ضعف الإنسان وقوته في آنٍ واحد، وصيحة تحدٍّ في وجه الحياة التي قررت أن تختبره حتى أقصى الحدود.
شَفَاكَ اللهُ وَعَافَاكَ،صَدِيقِيَ المُحَارِبَ المُبْدِعَ.
"اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ، أَذْهِبِ البَأْسَ، اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا".