مئوية”سعد الدين وهبة: رائد المسرح والسينما وصوت الفن الثائر”
السيناريست عماد النشار يكتب: ” مئوية”سعد الدين وهبة


المشهد الأول: البدايات – ميلاد فنان بين الطبيعة والتقاليد
في صباحٍ مشرق من عام 1925، وبينما كانت أشعة الشمس تتسلل خجولة من بين أغصان الأشجار الباسقة على ضفاف النيل، كان العالم على موعد مع ولادة طفل قد لا يدرك أحدهم حينها، أنه سيُعيد صياغة الفن من زاوية أخرى. في قرية دميرة، تلك البقعة التي امتزج فيها صمت النهر بحكايات الأجداد، وُلدت روح تتنفس على نغمات التمرد والإبداع. كانت العائلة تأمل أن يسير هذا الطفل على خطى تقاليد الأجداد، ولكن هناك، بين النيل والتراب، كان قلبه يعانق الأفق ويحلق بعيدًا. كان يفكر بأبعادٍ لم يفكر بها الآخرون، ويسبح في عالمٍ أوسع من حكاياته البسيطة عن الحب والصراع.
كان الكائن الذي بدأ بتشكيل ذاته في أحضان هذه الطبيعة الهادئة يتوق للانفجار، للتحليق عبر أفقٍ مجهول. فبينما كانت الجدات تسرد قصصًا عن الأبطال الغابرين، كان هو يصغي، لكنه كان يريد أن يكون هو البطل في قصته الخاصة، وأن يكون صوته هو الذي يسمعه الآخرون. قد لا يبدو الأمر كذلك في البداية، لكنه كان يعلم أن ما سيأتي بعد ذلك ليس مجرد خيال، بل هو شيء سيغير مجرى التاريخ الفني.
نشأ سعد الدين وهبة في بيئة تحكمها التقاليد، حيث كان احترام رغبة الوالدين فرضًا لا يُرد.
لذا عندما أصر والده على التحاقه بكلية الشرطة، لم يكن أمامه سوى الامتثال. لكن بين جدران الكلية الصارمة، وبين أروقة الحصص التدريبية، كانت أفكاره تنطلق بعيدًا.
كان سعد الشاب يعيش ازدواجية واضحة: بين عالم منضبط تحكمه القوانين وعالم داخلي يحكمه الإبداع والخيال.
المشهد الثاني: الشرطة والفلسفة – ازدواجية المهنة والحلم
عام 1949، وقف سعد الدين وهبة، الشاب اليافع، في ساحة كلية الشرطة، وقد اكتسى زي الضباط الرسمي. بدا المشهد وكأنه مكتمل الأركان: الانضباط، الجدية، وسلطة القانون. ومع ذلك، كان هناك ما يختمر بداخله، شعلة صغيرة ترفض الانطفاء، هي شعلة الفن والكتابة.
بدأت مسيرته المهنية كضابط في مركز منوف، ثم انتقل إلى الإسكندرية عام 1954، حيث عمل في بلوكات النظام وإدارة المرور.
كانت الإسكندرية مدينة ملهمة، بشواطئها المفتوحة وأزقتها التي تروي قصص الحياة. هناك، بدأ وهبة يُدرك أنه مهما كانت واجباته اليومية، فإن القلم هو السلاح الذي يريد استخدامه، لا السلاح الناري.
لم يكن سعيدًا بوظيفته، لكنه لم يكن مستسلمًا. سعى وراء شغفه والتحق بكلية الآداب، قسم الفلسفة، في جامعة الإسكندرية.
كانت الفلسفة بمثابة البوابة لفهم أعمق للحياة والإنسان، وصقلت طريقه ككاتب ومفكر. على مقاعد الجامعة، وجد سعد ذاته الحقيقية، واستمر في الكتابة القصصية للمجلات، مُحققًا توازنًا بين حياته كضابط وقلبه ككاتب.
لكن هذه الازدواجية لم تدم طويلًا، ففي لحظة حاسمة قرر التخلي عن الشرطة والبحث عن منصة أكثر ملاءمة لطموحه الأدبي.
لقد انتصر الحلم على المهنة، واختار الانطلاق نحو مستقبله ككاتب وصحفي.
المشهد الثالث: الصحافة – من "الجمهورية" إلى "الثقافة"
في خضم التغيرات التي كانت تملأ الشارع المصري في الخمسينيات، كان هناك قلم يسجل كل التفاصيل، يُعبّر عن آمال الناس، ويُسجل انفعالاتهم وأحلامهم. كان هذا القلم هو قلم سعد الدين وهبة، الذي بدأ رحلته الصحفية بموهبة تُلهب صفحات الصحف والمجلات.
في عام 1958، اختارته جريدة الجمهورية ليكون مديرًا للتحرير. كان لهذا المنصب أثر بالغ في مسيرته، فقد ترك بصمته الواضحة على النهج التحريري للجريدة بين عامي 1958 و1964. في الجمهورية، لم يكن سعد مجرد موظف؛ كان يُطلق أفكاره بكل قوة ويكتب مقالات تُلامس قضايا الوطن، وتعبّر عن التحولات السياسية والاجتماعية التي كانت تعصف بمصر في تلك الفترة. لكنه لم يكتفِ بذلك، فقد كانت طموحاته أكبر من أن تُختصر في قلم يكتب بين سطور الصحف اليومية.
مواجهًا الخلافات مع صلاح سالم، رئيس مجلس إدارة الجريدة آنذاك، وجد سعد نفسه ينتقل إلى مجلة الإذاعة، ليواصل كتابة مقالاته وخواطره الأدبية، حيث وجد في هذه المجلة منبرًا آخر يتيح له مزيدًا من الحرية.
ومع مرور الوقت، توسعت مسيرته الصحفية ليشمل عمله في مجلة الكواكب، ومجلة الاثنين، ومجلة الرسالة. كانت هذه المجلات بمثابة ساحات فكرية متجددة، يُعبّر فيها عن قضاياه الثقافية والسياسية بشكل جريء. وقد كتب أيضًا في مجلة الأسبوع، التي كان يصدرها الصحفي الكبير جلال الحمامصي. في هذه المجلة، كان سعد يبحر في عوالم الأدب والثقافة، مبدعًا في سرد القصص التي تكشف واقع الحياة اليومية وتطرح الأسئلة الكبرى حول المجتمع والسياسة.
من خلال هذه الرحلة الصحفية المتنوعة، لم يكن سعد الدين وهبة مجرد كاتب صحفي، بل كان رائدًا في عصره، يسهم في تشكيل الوعي الثقافي في مصر، ويناضل بالكلمة من أجل التغيير الاجتماعي.
المشهد الرابع: "سعد الدين وهبة: عملاق المسرح وثائر الكلمة"
تدور الأنوار في قاعة المسرح القومي، حيث تتدفق الظلال على خشبته القديمة، ويشع نورٌ خافت يطبع الوجوه بالحيرة والتأمل.
في هذه اللحظة، يظهر خلف الستار اسمٌ عظيم في عالم المسرح: سعد الدين وهبة. لقد بدأ مسيرته في الكتابة المسرحية ليصبح أحد كبار كتّاب المسرح في العالم العربي، وهو الذي استلهم الحياة لتروي قصصها عبر خشبته. تجسد مسرحياته كما لو كانت مرآة للمجتمع، عاكسة همومه وآماله، وقضاياه العميقة.
تندفع الستارة، فتظهر على خشبة المسرح صورة حية لواقع سياسي واجتماعي محموم، حيث الكلمات تتشابك مع الأفعال. كان وهبة بحق هو من قدّم للمجتمع المصري عيونًا جديدة لرؤية العالم، ليترك بصمته في كل زاوية من زوايا المسرح العربي. مسرحياته لم تكن مجرد أعمال فنية، بل كانت صرخة ضد الفساد والظلم، لدرجة أن الجمهور كان يشعر بكل كلمة وكأنها تعبر عن معاناته الشخصية.
المحروسة و كفر البطيخ و السبنسة كانت أبرز الأعمال التي تركت بصمة واضحة على هذا المسرح، حيث لم تقتصر على الترفيه، بل اختزلت مشاعر الواقع بكل قسوته. من خلال هذه الأعمال، استطاع وهبة أن يدمج القضايا الاجتماعية والسياسية في قالب فني يخلط بين الحقيقة والخيال، ليبني عالمًا تارةً مليئًا بالأمل، وأخرى مثقلًا بالهموم.
ومع سكة السلامة و المسامير و سبع سواقي، أخذنا في رحلة فكرية وشعورية لا مثيل لها. كانت خشبة المسرح بالنسبة له ملعبًا للحديث عن الإنسان، عن معاناته وآماله. وقد تمت عروض هذه المسرحيات على خشبة المسرح القومي، حيث كان يتجمع الجمهور ليتابع عن كثب كل كلمة، كل حركة، وكأنهم يعيشون تلك اللحظات التي تتساقط فيها الأحلام تحت وطأة الواقع.
ومع يا سلام سلم الحيطة بتتكلم و رأس العش، وفي لحظات من التوتر والإثارة، يعبّر وهبة عن الحال المزري للمجتمع المصري آنذاك. استخدم المسرح كمنصة لطرح قضايا العصر، فكل عرض كان بمثابة مرآة لعصره ومجتمعه، وبإبداعه استحق أن يكون رائدًا في المسرح العربي.
وفي الوزير شال الثلاجة، تلك المجموعة التي تتألف من مسرحيات فصل واحد، يستمر وهبة في مخاطبة الروح الإنسانية بأبعاده المتعددة، بلغة تتنقل بين الضحك والدموع، بين الواقع والخيال، مما جعل أعماله تتجاوز مجرد كونها مسرحيات، لتصبح شهادة حية على حركة الزمن وتغيراته.
كان له دور ريادي في المسرح العربي، حيث استطاع أن يكون صوتًا للحق، وحاملًا لراية التغيير، ليظل دائمًا في الذاكرة كواحد من أعظم كتّاب المسرح في التاريخ العربي. لا يمكننا إلا أن نقف أمام عظمة سعد الدين وهبة بكل احترام وإجلال، فقد كان عملاقًا حقيقيًا في عالم المسرح، وقائدًا في رحلة نقل الواقع إلى الفن. أعماله لم تكن مجرد مسرحيات، بل كانت نبضًا للحياة، تشع قوة وإبداعًا، تاركًا بصمة لا تمحى على المسرح العربي. سعد الدين وهبة، صاحب الكلمة الجريئة والرسالة الهادفة، سيظل دائمًا في ذاكرة التاريخ، رمزًا للمسرح الذي يحمل في طياته صوت الحق وجوهر الإنسانية.
المشهد الخامس: من خشبة المسرح إلى شاشة السينما: رحلة التألق من أبو الفنون إلى الفن السابع
في مطلع الستينات، انتقل سعد الدين وهبة من عوالم المسرح إلى الساحة السينمائية، ليُسجل اسمه بين كبار كتاب السيناريو في تاريخ الفن السابع. في تلك الفترة، لم يكن السيناريو بالنسبة له مجرد كلماتٍ على ورق، بل كان أشبه بلعبة سحرية، تحوّل الكلمات إلى صور تنبض بالحياة، تتنقل أمام أعين الجمهور كلوحات سينمائية تتحدث عن آلام وآمال مجتمع بأسره. كان قلمه يحمل طاقة فنية تتدفق بكل صدق وواقعية، ليُبرز عبره أعمق تناقضات المجتمع المصري في تلك الحقبة، ويحاكي قضاياه بقدرة فذة على تحويل الأزمات الاجتماعية والإنسانية إلى قصصٍ حية على الشاشة الكبيرة.
أفلامه التي أضاءت شاشة السينما المصرية حملت في طياتها رسائل لا تُنسى، حيث كان يتعامل مع النصوص السينمائية وكأنها تحدٍ للواقع، أو حلم لا بد أن يتحقق على شاشة السينما. وتوزعت هذه الأفلام بين الدراما الاجتماعية، السياسة، الكوميديا، وحتى الرومانسية، حيث جاءت متكاملة في تجسيد الواقع وتوجيه النقد في الوقت نفسه.
ومن عالم المسرح، حيث كانت الكلمات تُشهر كالسيوف وتنبض الحياة عبر حروفٍ مشتعلة، حيث كانت خشبة المسرح هي ساحة صراعه، إلى قفزة جديدة في مسيرته، تلك التي نقلته من الكلمات الجامدة في نصوص المسرح إلى عالم السينما اللامحدود. كان هذا الانتقال بمثابة ولادة جديدة، حيث أصبحت الصورة أداة أقوى لإيصال الرسالة، وتحوّلت السينما إلى ساحة مفتوحة أمامه ليجسد فيها الشخصيات بكل تفاصيلها، مرآة حية للعالم الذي يعيشه. من هذه النقطة، بدأ وهبة بتقديم سيناريوهات لأفلام خالدة، بعضها دخل التاريخ باعتباره جزءًا من "أفضل مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية"، حيث دخل أربعة من أفلامه هذه القائمة المرموقة.
وفي هذا الفضاء الواسع، كتب ما لا يقل عن اثني عشر فيلمًا تنوعت بين الدراما الاجتماعية، التاريخية، والكوميدية، ليختزل من خلالها قضايا المجتمع المصري في مشاهد سينمائية عميقة. أفلامه كانت مرايا للواقع، تُظهر الأوجاع، الأمل، والتحديات. وما زال تاريخ السينما مدينًا له بتلك اللحظات التي أضافها إلى الشاشة، مُظهرًا براعة تامة في كل حرف من سيناريوهات أفلامه
زقاق المدق
فيلم درامي مأخوذ عن رواية نجيب محفوظ، يسرد حكاية "حميدة"، الفتاة الجميلة التي تحلم بالتحرر من قيد الزقاق الضيق والفقر، لكنها تقع ضحية الاستغلال، لتصبح رمزًا للبراءة التي التهمتها قسوة الواقع. قسوة الحياة التي تبدو أكثر بشاعة في زقاق مدق، حيث تتسارع الأحداث في أجواء مشحونة بالمشاعر والتوتر، ما يجعل من "حميدة" رمزًا لمعاناة فتاة في مجتمعات تقيد الحلم وتخنق الأمل
الحرام
في هذا الفيلم المأخوذ عن قصة يوسف إدريس، تبرز مأساة "عزيزة"، تلك العاملة الريفية البسيطة التي تتعرض للاغتصاب أثناء عملها في الحقل. لا تكتفي القسوة بتدمير جسدها، بل تعمق من جراح الروح في هذا الفيلم الذي يرسم بأسى معاناة امرأة لا ملاذ لها سوى التحمل، بينما يقف المجتمع عاجزًا، بل قاسيًا في قوالب أخلاقية تضطهد الضحية بدلاً من أن تساندها.
أدهم الشرقاوي
هنا يأتي التميز في سيناريو من طراز آخر، فيلم تاريخي يجسد شخصية "روبن هود العرب"، أدهم الشرقاوي. يحارب هذا الرجل الظلم والاستعمار بشجاعة وبطولة، ليصبح رمزًا للمقاومة الشعبية والعدالة الاجتماعية. تأخذنا الأحداث إلى قلب معركة شرسة ضد المستعمر، وتُصوَّر شخصيته في مشهد مفعم بالحماسة الوطنية، بينما تتناغم الحركة والموسيقى لإيصال صراع الأبطال مع جحيم الظلم.
الزوجة الثانية
في إطار درامي اجتماعي، نجد "فاطمة" الفلاحة البسيطة التي تجد نفسها مجبرة على الزواج من العمدة المستبد. تمثل هذه القصة مقاومة "فاطمة" بطريقتها الخاصة، لتُضيء لنا فيلمًا يحمل في طياته أبعادًا اجتماعية عميقة عن الظلم والتغيير. كأنها رسالتها التي تقول: لا، لن نكون جزءًا من هذا الظلم مهما كانت التحديات.
مراتي مدير عام
ها هنا تتحول القصة إلى كوميديا اجتماعية لاذعة، حين تقوم زوجة بتولي منصب إداري كبير، فتنشأ مفارقات طريفة بين الحياة المهنية والأسرية. تتحول زوجة من دور التابع إلى دور القائدة، لكنها تظل أمام معركة أخرى، تلك التي تدور بين الواقع الاجتماعي ومكانتها الجديدة، لتستعرض لنا الصراع الفكري والعملي في إطار كوميدي مليء بالتفاصيل اللاذعة.
أرض النفاق
في فيلم اجتماعي ساخر مقتبس عن رواية يوسف السباعي، نجد أن "مسعود" يدخل متجرًا يبيع الأخلاق على شكل حبوب. تتحول هذه الفكرة إلى رحلة فلسفية ساخرة تدور بين مواقف مليئة بالتناقضات الأخلاقية. أسلوب الفيلم يُظهر تلاعب المجتمع بين المثالية والنفاق، ويأخذنا في رحلة فنية تغني عيوننا وتفكيرنا في ذات الوقت.
آه يا بلد آه
يُعبِّر هذا الفيلم عن الهموم المتراكمة للمجتمع المصري في لحظاته الحاسمة، حيث يقدّم صورة بانورامية للأوضاع الاجتماعية والسياسية التي أثرت بشكل عميق في حياة الناس في الشارع. يتنقل الفيلم بين المشاعر المتضاربة بين الأمل والمأساة، ليكون تعبيرًا صادقًا عن حال الأمة في لحظة حرجة.
أبي فوق الشجرة
بينما يطغى اللون الرومانسي على هذا الفيلم الموسيقي، تتجسد قصة حب عميقة وسط صخب المدينة وتحديات الحياة اليومية. لا تقتصر الأحداث على العلاقات الشخصية، بل تتسع لصور غنائية استعراضية تضج بالأمل والرومانسية، حيث تأخذنا هذه الرحلة العاطفية إلى قلب الحياة المعاصرة، لتضع أمامنا قصة حب استثنائية.
شباب في عاصفة
هنا تتصاعد الأحداث لتُعبّر عن صراع الأجيال، فالشباب يتمردون على الأعراف القديمة ويسعون إلى خلق واقع جديد. جيل الستينات يبرز في هذا الفيلم، الذي يعكس آماله وطموحاته من خلال قصة جيل كان يسعى دائمًا لتغيير صورة المجتمع المصري في حقبة حاسمة من تاريخه.
عروس النيل
هذا الفيلم الفانتازي يزاوج بين الأسطورة والواقع في مغامرة مشوقة. يعود الكاهن الفرعوني "كاي" ليحمي تقاليد عروس النيل، متدفقًا في أجواء من السحر والغموض، بينما يتنقل بين الماضي والحاضر ليحمل معه رسالة حبٍ تُعزَّز بالرموز التاريخية.
أريد حلًا
وفي هذا الفيلم الاجتماعي الدرامي، نجد امرأة تكافح للحصول على حريتها من زواجٍ تعيس، متجاوزةً القيود المجتمعية في طريقها للحصول على الطلاق. يشكل هذا العمل حجر الزاوية في فيلم يعكس قضايا الطلاق والخلع، مُسلطًا الضوء على معاناة النساء في مواجهة القوانين المجحفة.
سوق الحريم
وها هنا، يأخذنا هذا الفيلم إلى قلب العلاقات الزوجية والضغوط الاقتصادية في طبقات المجتمع المختلفة. بتقديم صورة كوميدية عن التحديات اليومية التي تواجه الأزواج، يتناغم الطرح مع الواقع الاجتماعي ليكشف بمرارة الفروقات بين الطبقات، مع الحفاظ على نكهة الفكاهة الخاصة بكل تفصيل من تفاصيل الحياة الزوجية.
بين خشبة المسرح والسينما، ترك سعد الدين وهبة إرثًا لا يُضاهى، أرسى قواعده بحروفٍ كتبت لتعيش في الذاكرة الجماعية. من خلال أزماته وتجربته الفنية، تحدى الحدود وأبدع في تحويل السينما إلى مرآة حقيقية لعالمه وأحلامه. كان قلمه أقوى من أي أداة أخرى، يكتب لتلامس الصور أعماق القلوب وتنفجر شلالات من الفكر والتأمل. لقد جعل السينما جزءًا لا يتجزأ من حياة الناس، مرسخًا إيمانًا راسخًا بأن الفن ليس مجرد كلمات أو صور، بل هو حياة تُعاش على الشاشة، وذاكرة تُكتب في الزمن.
المشهد السادس: سعد الدين وهبة.. الفن ضد التطبيع
في أحد أيام الخريف، حيث تساقطت أوراق الشجر في القاهرة، كان الفنانون والمثقفون يتجمعون في قاعة نقابة السينمائيين في لحظة مفصلية. كان النقاش يحتدم حول موضوع حيوي: التطبيع مع إسرائيل. في الزوايا، دُهنت الجدران برسومات تُحيي ذكرى النضال العربي ضد الاحتلال، بينما كانت الأضواء تسلط على الرجل الذي لا يُساوم في مواقفه، سعد الدين وهبة.
وقف وهبة في وسط القاعة، وسط صمت ثقيل. وبمجرد أن أطلق صوته، شعر الجميع أن الكلمات ليست مجرد تصريحات سياسية، بل كانت صرخة ضمير.
"الفن ليس مجرد إبداع، هو ضمير الأمة."
كانت تلك لحظة فاصلة في مسيرته السياسية، حيث أصبح أحد أبرز القادة الذين يقفون ضد التطبيع، قائلًا لا لسياسات الخيانة. كانت تلك المرة الأولى التي يتحدث فيها بشكل علني ضد سياسة الانفتاح التي تبناها الرئيس السادات، ورأى فيها ضررًا على مجتمع بأسره، يتآكل تدريجيًا مع كل اتفاقية تُبرم دون النظر إلى مصلحة الشعب.
ورغم مرور السنين، بقيت كلمات وهبة تدوي في الأفق.
على الرغم من تأثيره البالغ في مجاله الفني والثقافي، كان وهبة دائمًا في صراع مع السلطة بسبب مواقفه القوية، التي لم تكن دائمًا في صالحه. إذ تم ترشيحه لمنصب وزير الثقافة في عدة مرات، لكنه كان يُستبعد دائمًا. يقال أن السبب في ذلك كان موقفه الثابت من مقاطعة إسرائيل، الذي لم يُرضِ النظام الحاكم آنذاك. كان أحد أولئك الذين لا يقبلون بأن يُساوموا على مبادئهم، حتى لو كان الثمن هو منصب أو تكريم.
ومع ذلك، لم يكن يُبالي بالتجاهل الرسمي أو محاولات التضييق عليه. فالمسار الذي اختاره كان أكبر من أي منصب، وأعمق من أي مكافأة. كانت مواقفه السياسية تجسد رفضًا صارمًا للسياسات التي تعارض حقوق الإنسان، كما كانت تمثل تمسكًا بنضال شعبه ضد القوى التي تحاول فرض إرادتها بالقوة.
وفي واحدة من اللحظات التي تُظهر إيمانه القوي بقيمه، تم انتخابه لعضوية مجلس الشعب المصري بين عامي 1984 و1987. لكن تلك الفترة لم تكن مجرد رحلة سياسية عابرة؛ بل كانت مرحلة لتأكيد تأثيره المستمر في الحياة العامة، وأيضًا لتسليط الضوء على إصراره في طرح قضايا الوطن بكل شجاعة.
مواقفه كانت دائمًا تعكس ضمير الفنان الذي لا يرضخ، صوتًا من داخل المنظومة السياسية يعكس رؤية مختلفة عن تلك السائدة في المجتمع. فالفن عنده كان أداة للثورة، وعلامة على تمردٍ لا يُقبل فيه التنازل عن القيم والمبادئ.
وهكذا، ظل سعد الدين وهبة أحد الفنانين الذين ساهموا في تشكيل ضمير الأمة. ليس فقط من خلال أفلامه ومسرحياته، ولكن أيضًا من خلال مواقفه السياسية التي أظهرت كيف يمكن للفن أن يكون أقوى من أي اتفاقيات أو سياسات، وأشد إصرارًا من أي ضغوط قد تواجهها الأنظمة.
المشهد السابع: سعد الدين وهبة: مناصب مرموقة، جوائز رفيعة، وتكريمات لفنان صاحب موقف لا يُساوم
كان إسم سعد الدين وهبة يتردد في كل زاوية من زوايا الثقافة والفن، كصوت دائم في مسارح وقاعات الفكر، يصدح بالحقيقة دون خوف أو تردد. كان أكثر من مجرد كاتب وفنان؛ كان رمزًا للمقاومة والفكر المستقل. لم يكن ليظل في الظل رغم إنجازاته العميقة، بل كان شعاعًا مضيئًا في سماء الثقافة العربية. كانت مواقفه حادة ومباشرة، يرفض فيها التنازل عن المبادئ أو السكوت عن الظلم. ومع كل خطوة يخطوها، كانت الأوسمة والجوائز تتوالى عليه، شهادة على تأثيره العميق ورسالته الثابتة، ليظل أيقونة في النضال الثقافي والفني على مر الأجيال.
منذ أن بدأ إسم سعد الدين وهبة يتردد على ألسنة المثقفين، أصبح علامة فارقة في الأدب والفن. ففي عام 1965، اختاره الوطن ليحمل وسام الجمهورية من الطبقة الثالثة، تكريمًا لإبداعاته الأدبية والفنية. ومع مرور السنوات، لم يكتفِ بالجوائز التقليدية، بل حصل في عام 1976 على وسام جوقة الشرف الفرنسي من درجة ضابط، تكريمًا من دولةٍ تعترف بقدراته المبدعة وتقديرًا لتأثيره في عالم الفن.
لكن ذلك لم يكن كل شيء، ففي عام 1985، كانت الجائزة الأرفع على مستوى الوطن، حيث منحه النظام المصري وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى، ليظل هذا الوسام شاهدًا على سنوات من العطاء. كما نال جائزة الدولة التقديرية في الآداب في عام 1988، لتظل أعماله خالدة في الذاكرة الثقافية.
كانت هذه الجوائز مجرد خطوة في مشوار طويل من التفوق، الذي لا يقتصر على ما هو شخصي فحسب، بل كان ترجمة لإرثه الثقافي والفني الذي امتد لعقود. لكن ما جعله مختلفًا عن غيره هو ارتباطه العميق بالقضايا الوطنية، التي كانت لها صدى في أعماله وتصريحاته.
ومن دون أن يتوقف عن عطائه الفني، توالت عليه المناصب الكبرى، التي أضافت إلى سيرته الشخصية بُعدًا جديدًا. تولى منصب مدير تحرير جريدة الجمهورية في عام 1958، فكان له دور مهم في التأثير على جيلٍ كامل من القراء، قبل أن ينتقل إلى رئاسة مجلس إدارة الشركة العامة للإنتاج السينمائي العربي، حيث شكّل إضافة حقيقية لصناعة السينما المصرية. كما تولى رئاسة مجلس إدارة هيئة الفنون، وكان يساهم في توجيه السياسات الثقافية التي كانت تسعى للنهوض بالذوق الفني.
لم يقتصر دوره على هذا فحسب، بل أسهم في الحياة السياسية حيث شغل منصب عضو مجلس الشعب المصري بين عامي 1984 و1987، معلنًا التزامه بقضايا الشعب وجعلها جزءًا من رسالته السياسية. في تلك الفترة، كان يعبر عن آراءه بصراحة، وتحدّى العديد من الأنظمة التي كان يراها تمثل تهديدًا للثقافة والمجتمع. في عام 1979، وصل إلى قمة النجاح في ميدان الثقافة حين تم انتخابه نقيبًا للسينمائيين، ليتبع ذلك مسيرته في رئاسة اتحاد النقابات الفنية في عام 1980، ثم يتوّج بمناصب أخرى مثل رئاسة مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، الذي كان له دور كبير في تحسين سمعة السينما المصرية عالميًا.
وفي عام 1997، شغل منصب رئيس اتحاد كتاب مصر، ليؤكد من جديد على تواجده القوي في الساحة الثقافية. بين العديد من المناصب التي تقلدها، تظل رئاسته لهذا الاتحاد أحد أوجه تأكيده لالتزامه بتوجيه الحركة الأدبية والفكرية في مصر.
وبينما كان يقود مسيرة ثقافية عظيمة، كان يهتم بكل تفصيل في حياته الشخصية من أجل أن يجعل الفن أداة للتغيير، وأسلوبًا للتمرد ضد الظلم. فقد احتفظ بمواقفه الثابتة، لا يساوم ولا يتنازل، وتظل كلماته تردد في كل أرجاء مصر والعالم العربي، شاهدة على حياته التي كانت متفردة بكل تفاصيلها.
وفي آخر أيامه، وبالرغم من تقديره الواسع على المستويين المحلي والدولي، ظل الرجل يناضل من أجل قضايا وطنه، وجعل الفن وسيلة لتحقيق أسمى القيم الإنسانية.
ومع كل تلك الجوائز والمناصب، كان سعد الدين وهبة، ببساطة، علامة فارقة في تاريخ الفن المصري والعربي، رجلًا لم يُساوم، فظل خالدًا في ذاكرة الأمة، وفنه الذي لا يزال يضيء طريق الأجيال القادمة.
المشهد الثامن: "شراكة فنية وحياة: قصة سعد الدين وهبة وسميحة أيوب"
في عالم الفن، حيث تلتقي الأرواح على خشبة المسرح وتنسج بين الكلمات والألحان قصصًا لا تنسى، كان سعد الدين وهبة أحد الأسماء التي أثرت هذا المجال بعمق. لم يكن فنانًا وحسب، بل كان شخصًا يعيش الفن بكل كيانه. وفي طريقه الطويل، صادف شخصًا آخر كان له تأثير كبير في مسيرته، ليس فقط كفنان، بل أيضًا كشريك في الحياة.
في البداية، تزوج سعد الدين وهبة من امرأة كانت رفيقته في الحياة والقدرة على العطاء والتي انجب منها بنتيه لكن لم يكن يعرف حينها أن المستقبل سيمنحه شريكًا آخرًا في رحلة الفن والحياة، شريكًا جعلته يقف على أرض أكثر ثباتًا، وأكثر تجذرًا في مسيرته الفنية.
كانت سميحة أيوب، سيدة المسرح العربي، تلك التي دخلت حياة سعد الدين وهبة بعد أن تعارفا أثناء تمثيلها مسرحيته الشهيرة "السبنسة" على خشبة المسرح القومي في الستينيات. كانت تلك اللحظة التي تغير فيها كل شيء، حيث لم تكن مجرد علاقة عابرة بين فنانين، بل علاقة نشأت على أساس الاحترام المتبادل والإعجاب العميق بالفن.
علاقة كانت نابعة من التفاهم الكامل بينهما، وكانت لا تقتصر فقط على الحياة الشخصية، بل امتدت لتشمل كافة جوانب العمل الفني. سعد وسميحة لم يكونا مجرد زوجين، بل كانا شريكين في كل تفاصيل الحياة، يتبادلان الأفكار والإلهام، ويتعاونان في خلق فن يروي قصصًا تلامس القلوب. كان سعد يعتبر سميحة أكثر من مجرد زوجة، بل كان يراها شريكًا في رحلته الفنية، تلك التي لا يعرف أحد متى بدأت أو متى ستنتهي، ولكن كان يعرف يقينًا أنها كانت وستظل مسيرة لا تعترف بالحدود.
وفي كل لحظة من حياتهم، كانت العلاقة بينهما تنمو وتزدهر، مثل زهرة فنّية توشك على أن تفتح للناس في كل أنحاء العالم. كانا يدعمان بعضهما البعض في أوقات الشدة والفرح، ويجد كل منهما في الآخر العون والتفهم. كان سعد الدين وهبة يستمد قوته من شريكته في الحياة، وكان يرى في سميحة أيوب الشخص الذي يدعمه في استكمال مسيرته الفنية، كما كانت هي ترى فيه بطلًا يلهمها لتقديم المزيد.
لقد كانت حياتهم أكثر من مجرد زواج بين فنانين، كانت قصة إبداع حقيقي نابع من التفاهم والاحترام. وبهذا التكامل، رسم سعد الدين وهبة وسميحة أيوب لوحة فنية لم تكن مجرد حياة مشتركة، بل كانت سفرًا طويلًا من الإبداع، كتبت فيه كل فصوله بالألوان التي تغني بالأنغام.
الخاتمة
لقد ترك سعد الدين وهبة إرثًا كبيرًا في الأدب والفن، وكان له دور محوري في تطور المسرح والسينما في مصر. تميز بتناوله القضايا الاجتماعية والسياسية، مما جعل أعماله تتسم بالواقعية والتأثير العميق. رحل سعد الدين وهبة في 11 نوفمبر 1997، تاركًا خلفه إرثًا فنيًا سيظل حيًا في ذاكرة الثقافة العربية.
لقد أسس سعد الدين وهبة لنفسه مكانة خاصة في ذاكرة الفن المصري والعربي، من خلال أعماله التي كانت دائمًا شديدة الارتباط بالواقع الاجتماعي والسياسي لمجتمعه. في مسرحياته وأفلامه السينمائية، استطاع أن يعكس التغيرات والاضطرابات التي مر بها المجتمع المصري في مختلف فترات حكمه، ليُعَبر عن الصراع الداخلي للمجتمع وتوتراته الاجتماعية بأسلوب فكري ونقدي مبتكر. لا تزال أعماله حاضرة في الوعي الجمعي وتعد مرجعًا رئيسيًا لكل من يسعى لفهم تطور الفن المصري والعربي في تلك الحقبة.
رحل سعد الدين وهبة، لكنه سيظل واحدًا من أبرز رموز الفن الذي كان له الفضل في إحداث تحول كبير في السينما والمسرح، مؤكدًا أن الفن هو مرآة المجتمع، الذي يعكس حقيقته ويشكل جزءًا من مسار تطوره.