هند الصنعاني تكتب: عطر الوطن.. لا يذوب


عبق التاريخ ليس مجرد كلمات، بل هو إحساس متجذر في أعماقنا، تحمله جدران بيوتنا القديمة، إطارات صورنا التي اصفرّت مع الزمن، وحتى تراب أرضنا الذي يفوح بذكريات لا تزول، مع كل نسمة هواء تحمل عطر الوطن، تتوقف دقات قلوبنا للحظة، ويمضي بنا الحنين في رحلة زمنية، حيث تلامس الروائح ذاكرتنا العميقة، فتخطفنا إلى أيام مضت، إلى وجوه غالية وأماكن محفورة في القلب.
رائحة الذكريات قادرة على إذابة سنوات من الاشتياق، فهي تستحضر لحظات دافئة كعطر الأحباب، طعام الطفولة، أو حتى زوايا الأماكن التي شهدت أجمل أيامنا، رغم أن الفلسفة اليونانية القديمة صنّفت حاسة الشم على أنها الأدنى مقارنة بالحواس الأخرى، إلا أن الدراسات الحديثة أثبتت ارتباطها العميق بالعاطفة والذكاء الوجداني، حيث تحفر الروائح مواقف لا تُنسى في أذهاننا، وتعيد لنا مشاعر دفينة بمجرد استنشاقها من جديد.
ومن بين كل الروائح، تبقى رائحة الأمان والحنان هي الأكثر خلودًا، العطر الذي يسكن أحضان الأم والأب في الأيام الممطرة، تلك الرائحة المقدسة التي تحتاجها أرواحنا حين نشعر بالضعف، نستدعيها في لحظات الحزن قبل الفرح، ممزوجة دومًا بالاحتياج والاشتياق مهما كبرنا.
أما في المغرب، حيث تتجلى الروائح كجزء لا يتجزأ من الهوية، يظل "بطبوط" الأم و"كسكس" يوم الجمعة من العطور الاستثنائية والخالدة، روائح محفورة في العقل الباطن، تسحبنا برفق نحو دفء العائلة، تلون أيامنا الرمادية، وتخفف من لوعة الحنين الذي لا تنتهي.