هالة فهمي تكتب: مواقف وحكايات عن محمد جبريل .. كما أعرفه !!
طفل كبير .. نعم لا تعجبوا من تلك البداية عن كاتب كبير لكنه قدم لي نفسه هكذا عام ١٩٩٧ عندما قابلته في نادي القصة بالقصر العيني وكانت معي شقيقتي الصغرى وأخذ يمزح معها بخفة روح وطيبة شديدة فقلت له : من يراك عن بعد يألفك ومن يقترب منك يحبك يا أستاذ محمد فقال لأنني طفل كبير إياك أن تصدقي شعري الأبيض هذا فهو مزحة .
قالها وترك لي السنوات لتعرفني حقيقة قوله .. فهذا الرجل الكبير الذي يعلو الشيب مفرقه وتسكن الابتسامة عيونه يمتلك قلب طفل حقا .. سريع الغضب .. سريع التصالح .. له قلب يعرف متى ومع من ينبض وعندما يغضب يصمت .. وعندما يعاتب تدمع عيونه .. كل هذا رأيته وتعرفت عليه فهو يعيش كما يكتب بسلاسة وهدوء .
جبريل عضو مجلس الإدارة في اتحاد كتاب مصر الكاتب الصحفي والروائي والناقد الكبير .
سأحكي لكم مواقف متفرقة أولها كان لقاء النادي وهو يمازح شقيقتي ويقول لها لا تكوني خجولة هكذا فيزداد خجلها فيضحك ويقول لها شقيقتك أقتحمت الحياة وتبدو قوية كوني مثلها مفترية ويضحك .. ثم أهداها كتبا من إصدارات الكتاب الفضي للنادي وقال لها أنت أجمل من أختك .. فنطقت شقيقتي الصامتة وقالت لا .. هى أجمل .. ظل يضحك كطفل منتصر.
اللقاء الثاني كان في جريدة المساء وهو أحد أركانها الجميع يحبه فيها لم يختلف عليه أحد في كونه الأستاذ .. فبعد عملي في الجمهورية أقتربت من عالم جبريل المنتج في هدوء دون صخب.. فهو يأتي لمكتبه ويظل يعمل ويعمل لينهى صفحته التي قدم من خلالها الكثير من مبدعي مصر شرقا وغربا شمالا وجنوبا .. ويسلم صفحته ويستقبل بعض مرديه ويذهب كنا نعمل في مكان واحد هو بكل تاريخه وعطائه وأنا ببداياتي الصحفية .. لكنه يتعامل معاملة الكبار فكان يعاملني وكأن العمر الذي بيننا لا شيئ فلم يناديني يوما بأسمي مجردا دائما يا أستاذة وكنت أخجل منه وأقول له شقيقتك الصغرى يا أستاذ هالة فقط يضحك كطفل ويقول : أنا حر أناديكي كيفما يروق لي .
**موقفان في اتحاد كتاب مصر:
الأول حين تشاجرت مع الكاتب الكبير عبد العال الحمامصي الذي ضايقه أن د. سمير سرحان سيفتتح عودة سلسلة إشراقات أدبية بمجموعتي القصصية (للنساء حكايات) وشعر أن رئيس الهيئة يهمشه فبعد خروج د. سمير من الاتحاد إقترب ليقول لي سامحيني يا هالة لن تكون مجموعتك الأولى وهذا القرار بصفتي رئيس التحرير حتى لا يقال أن هالة فهمي بقربها لعبد العال الحمامصي أصدر لها أول عدد سوف أؤجلك قليلا .
غضبت وقلت له بحدة أنا من طالبت د. سمير بعودة السلسلة التي توقفت لسنوات طويلة وقد قرر رئيس الهيئة أن مجموعتي ستكون الأولى .. احتدم النقاش وعلا صوت عبد العال الحمامصي رحمة الله عليه فقلت له بغضب لن أنشر مجموعتي في سلسلة أنت رئيس تحريرها فصرخ أنا أول من كتبوا عنك في عمودي بمجلة أكتوبر هل تتذكرين (هالة فهمي وجه للمستقبل .. أنتظروه )
وهنا تدخل محمد جبريل سريعا وقال أجمل الوجوه الأبداعية وأخذني من يدي وقال لا تقفي أمامه الأن عبد العال عصبي وأنت غاضبة والأمور ستسوء أوامر رئيس الهيئة هى التي ستسري وليس رأيه هو غاضب لأنه كان يتمنى أن يشعر أنه من قدم لك هذا الفعل .. لكنك تخطيته ولأنك من طالب رئيس الهيئة بعودة السلسة هو يراك أبنته تلميذته فكيف تقفين أمامه لو لي معزة عندك عودي لبيتك الأن وأتركيه ليهدأ .. هنا كان جبريل كبيرا حنونا ..وعندما هممت بالإنصراف وجدته يخرج من جيبة بسكويت ويضحك ويقول لي (عضعضي) في هذا وأنت عائدة ويارب تعضي لسانك .. وضحك تلك الضحكة الطيبة .
الموقف الآخر كان بعد ذلك بأعوام وكنت أجلس مع الشاعر والإعلامي الكبير ورئيس اتحاد كتاب مصر فاروق شوشة وقتها و محمد جبريل نائبه كان ثائرا لتصرف أحد اعضاء المجلس ودخل ليناقش مع شوشة ماذا سيكون الرد وعندما وجدني التزم الصمت فهذه أسرارهم لكن فاروق شوشة دعاه للحديث قائلا تحدث فليس بيننا غرباء هالة واحدة مننا وأضع ثقتي الكاملة فيها .. فتكلم وكان غاضبا مما قاله هذا العضو .. وعندها طلبت الكلمة وبررت فعلة هذا العضو من وجهة نظري التي هدأت قليلا من انفعاله .. ثم نظر مبتسما يا بخته بالدفاع عنه .. فقلت سريعا بالدفاع عن الحق يا أستاذ فقد كنت حاضرة الموقف .. ضحك وقال :طبعا ما حدث الأن لن ينقل .. غضبت فضاحكني (بجر شكلك) وعقب فاروق شوشة .. جبريل لا يقصد لكنه لا يريد مشاكل وهذا الشخص سليط اللسان كما تعرفين .
**جبريل في نقابة الصحفيين وندوته التي أخرجت العديد من جيل الثمانينات والتسعينات والتي ظلت قائمة حتى منعته صحته من التواجد فيها .
كان يجلس جلسة أب وسط أولاده وبناته يسمع ويسمع ويوجه من بعيد يعطي الفرصة للكاتب ولمشروع ناقد أو ناقدة يشبوا على أطراف الحلم بالتواجد في الحياة الثقافية .. يفض منازعاتهم حول قصيدة أو قصة أو رواية أو رؤية نقدية بهدوء وابتسامة وينهي الموقف برأيه.
يأكل معهم ويشرب معهم كانت لندوته طابع أسري لم أكن من روادها إلا قليلا لأنني كنت أدير ندوة أو أشارك فيها يوم الثلاثاء فكان من الصعب التواجد ليومين وراء بعضهما فهذا يعد مشقة علي ولكن عندما يتاح لي كنت أذهب وكان يحتفي بي كعادته.. كان رواد ندوته يعشقون الجلوس إليه حتى بعد نهاية الندوة.
ما الجديد يا هالة فيما تقولينه في هذه الشهادة أو المقال لكل الناس مواقف مع جبريل الأب الأستاذ الأخ الزميل أو الصديق ؟!
لا جديد أنا فقط أحلل الطفولة في سلوك كاتب أعطى من عمره أكثر من ستين عاما للصحافة والكتابة والعمل العام .
نعود لأول موقف صدامي لي مع الطفل الكبير والذي برهن على شيئين طفولته البريئة التي يحتفظ بها خلف شعر رأسه الأبيض وعشقه لزوجته الفاضلة دكتورة زينب العسال عشق عمره كما قال لي .
كنا نمر بفترة انتخابات نادي القصة ولم أكن مرشحة ولكن د. زينب كانت من ضمن المرشحين لعضوية مجلس الإدارة .. وفجأة استوقفني جبريل في ممر الجرنال زاعقا (ايه اللي بينك وبين زينب) صدمني انفعاله والسؤال فهذا أول مرة أراه هكذا فقلت من زينب ؟ فغضب أكثر ظنا منه أنني أستنكرها أو اتلائم عليه فقال زوجتى .. قلت د. زينب ليس بيني وبينها ما يجعلك تتحدث هكذا !!
فقال صارخا ابتعدي عنها فقد بلغني أنك تطالبين الناس بألا يصوتوا لصالحها وتخوضين في حقها ولعلمك أنت امرأة وسهل أذيتك !!
صدمني قوله .. لكنني أجبت سريعا وكأن الرد كان حاضرا عندك حق أنا امرأة وسهل جدا محاربتي بطرق رخيصة كالتي تقول أنني أرتكبها في حق زوجتك .. لكن تذكر هذه الجملة جيدا وتذكر أن زوجتك أنثى أيضا!!
والتزم الصمت قليلا وأخفض صوتك وأنت تحدثني وهنا سقطت المسافات العمرية بيننا وكنت اتعامل مع الطفل الغاضب الذي يصعب السيطرة عليه .. وكان لابد من ألا أكون لطيفة معه فصرخت أنا الأخرى أنتظر واسمع وإن كنت غير ملزمة بالدفاع عن نفسي لأنني غير مدانة .
فتحت محمولي وطلبت أحدى الصديقات من عضوات النادي وكنا ننسق معا للانتخابات راغبات في التغير . فتحت الصوت ليسمع وقلت لها :
أخبار الانتخابات ايه قائمتنا كما هى ولا غيرتي اسماء منها فقالت: لا القائمة كما اتفقنا المرشحات أولا ثم فلان وفلان هل تريدين التغيير فقلت لها لا بطمن بس على وضع د. زينب وبشرى أبو شرار فقالت لا تمام الناس بتحبهم ومتفقة عليهن .
ظللت أنظر إليه صامتة وفجأة تركته وأنصرفت لمكتبي في حالة ذهول .. من قال له اشياء لم تحدث؟! وكيف صدق هو؟! وكيف تجرأ على تهديدي وهو الخلوق المحترم؟!
لم تمض على حيرتي دقائق ووجدته بنفسه يطرق باب مكتبي .. ممكن أدخل؟
فقلت له من فضلك أتركني الأن .. فقال لا .. أريد أن نتحدث وتطلبين لي أي شيئ أشربه على حسابك ولو فضلتي زعلانه هطلب أكل وأنا باكل كتير .. وظل ينظر بطريقة طفل لا يعرف كيف يلطف مع كبير اخطأ في حقه .
جلس أمامي وقال أنا بحب زينب قوي وهى تستحق كل الخير ليس لأنها زوجتي بل لأنها تستحق وقد قال لي أحدهم أنك تحاربينها وكان علي أن أفكر قليلا ولكنني لم أفكر لأن الأمر يخص زينب .. والحقيقة ما سمعته في التليفون وما فعلته أنا بعد انصرافك فقد اتصلت بالواشي وقلت له: واجهت هالة فأنكرت وطلبت مني مواجهة ناقل الكلام لكنه رفض وقال أنني أحرجه معك وغضب وقال أنه مخطئ لأنه خاف على زينب ونبهني ولكنه لن يواجهك .. فتأكدت أنه كاذب وأنا هنا لأعتذر .. سماح بقى زينب أختك وهى طيبة وبتحب كل الناس .
لم يكن أمامي إلا قبول الإعتذار من أستاذ كبير وزميل أكبر .
لم يمر الأمر كان تهديده لي في سياق الكلام مؤلما ولم أصدق أن يأتي على لسان محمد جبريل .. فكنت أتعامل معه بحاجز نفسي إلى أن تقابلنا ذات يوم على باب الجرنال وطلب مني أن يركب معي وأقوم بتوصيله لبيته فقد كان متعبا وفي طريق حكى لي الكثير عن حياته واعتذر مرة ثانية وقال أنا حذرتك من البداية وقلت لك أنا طفل كبير ولو قمتي بزيارتي أنا وزينب ستكتشفين كم أننا طيبان جميلان .
كان صادقا .. مرت الأيام والسنوات وكنت أتمنى زيارته لرؤية قططهما ومكتبته وكثيرا ما وعدت الصديق المشترك الروائي أشرف خليل أن نذهب إليه معا .
لم أذهب لعدة موانع كان يتفنن الزمن في إيجادها ويوم قررت الذهاب لتهنئته بكتابه الجديد .
صدمني خبر موته
رحل الطفل الكبير النقي بعد أيام من صدور أخر أعماله الروائية .. رحل عاشق الحياة والقلم رحل تاركا محبته في قلوبنا وابتسامته في عيوننا ومؤلفاته في عقولنا.
هذا محمد جبريل الذي أعرفه فترحموا معي على رجل أحب الحياة وبيته وكتبه وزينب العسال زوجته .. خالص عزائي لك عزيزتي وللحياة الثقافية ولأسرة دار التحرير .. ودعواتكم الطيبة له.