عِمادُ النّشّارِ يَكتُبُ: أُمَّةُ المِليارِ قَلَمٍ وقَلَمٍ!
مُنذُ انطلاقِ مهرجانِ السوشيال ميديا للجميعِ في العشريَّةِ الأولى من القرنِ الحالي، أصبح لقبُ "أصحابِ القلمِ" يُطلَقُ على كُلِّ مَن هَبَّ ودَبَّ. الكُلُّ يَكتُبُ في كُلِّ شَيءٍ بلا مَوهِبَةٍ أو دِراسَةٍ، والكثيرُ مِن عَدَمِ الفَهمِ والوَعيِ، حتَّى إنَّ بعضَهم تمادَى في جُرأتِه بعدما أَمِنَ العِقابَ، وأخَذَ يَكتُبُ في الدِّينِ، يُفسِّرُ ويُحلِّلُ ويُشَرِّعُ ويَطعَنُ في الثَّوابتِ بدَعوى التَّنويرِ. وغَيرُهم مِمَّنِ اقتَحَموا المَجالَ الأدَبِيَّ والفَنِّيَّ راحوا يُطلِقونَ على أنفُسِهِم ألقابًا مَجَّانِيَّةً مُزيَّفَةً، كشاعِرٍ وناقِدٍ ورِوائِيٍّ وأَدِيبٍ ومُحلِّلٍ وخَبِيرٍ، وأدنَاهُم "كاتِبٌ". بل هُناكَ مَنِ استَبَدَّت بِهِ وِقاحَتُهُ وراحَ يُطلِقُ على نَفسِهِ لَقَبَ "مُفَكِّر"!
والخَطِيرُ في الأَمرِ، الَّذي وَصَلَ حَدَّ الكَارِثَةِ الَّتِي نُعانِي مِنها، أنَّ هَؤُلاءِ لَهُم جُمهورٌ ومُتابِعونَ بِالآلافِ، وتَصَدَّروا المَشهَدَ العَبَثِيَّ الَّذِي نَعِيشُهُ، ونَالُوا الشُّهرَةَ والحَفاوَةَ والجَوائِزَ والمِنَحَ على حِسابِ أَهلِ مِهنَةِ الكِتابَةِ الحَقِيقِيِّين، الَّذِينَ مَنَحَهُمُ اللَّهُ المَواهِبَ والمَلَكاتِ لِيُعَبِّرُوا بِها عن قِيَمِ الحَقِّ والخَيرِ والجَمَالِ في كُلِّ الأَجناسِ الأَدَبِيَّةِ الَّتِي بَرَعُوا فِيهَا، وتَناقَلَهَا الوِجدَانُ الإِنسَانِيُّ جِيلًا بَعدَ جِيلٍ عَبرَ المَخطُوطاتِ والمَطبُوعَاتِ الَّتِي حَفِظَت وَحَمَلَت إِبداعَهُمُ المَصقُولَ بِضَمائِرِهِم الحَيَّةِ، الَّتِي تَعرِفُ جَيِّدًا قِيمَةَ ومَسؤُولِيَّةَ أَمانَةِ الكَلِمَةِ ومَدَى تَأثِيرِهَا.
ومِن عِظَمِ أَهمِّيَّةِ القَلَمِ وخُطُورَتِهِ، خَصَّهُ اللَّهُ عزَّ وجَلَّ وأَفرَدَ لَهُ سُورَةً تَحمِلُ اسمَ "القَلَم"، والَّتِي بَدَأَهَا بِالقَسَمِ قَائِلًا:
﴿نۤ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ [القلم: 1]، وَهِيَ ثَانِي سُورَةٍ نَزَلَت بَعدَ سُورَةِ "اقرَأ"، والَّتِي جَاءَ ذِكرُ القَلَمِ فِيهَا أَيضًا فِي الآيَةِ الرَّابِعَةِ:
﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ [العلق: 4].
كَمَا أَنَّ أَصحَابَ القَلَمِ جَاءَ ذِكرُهُم فِي القُرآنِ الكَرِيمِ فِي أَكثَرَ مِن مَوضِعٍ، سَوَاءٌ بِالتَّصريحِ أَو التَّلمِيحِ، وَأَغلبُهَا أَعقَبَ ذِكرَهُم تَهديدٌ وَوَعِيدٌ جَزَاءَ التَّحرِيفِ والغَوَايَةِ والعَبَثِ بِعُقُولِ النَّاسِ، وَزَعزَعَةِ إِيمَانِهِم، وَتَجرِيدِهِم مِن عَقَائِدِهِم وَأَخلَاقِهِم طَمَعًا فِي ذَهَبِ سُلطَانٍ أَو جَزَرَةِ كَاهِنٍ أَو مَسؤولٍ، لِلسَّيطَرَةِ عَلَيهِم، وَإِخضَاعِهِم، وَإِدخَالِهِم حَظَائِرَ المَهَانَةِ وَالمَذَلَّةِ.
وممَّا قاله العلماءُ عن الأقلامِ: الأقلامُ في الأصلِ ثلاثةٌ:
القَلَمُ الأَوَّلُ: الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَكتُبَ.
القَلَمُ الثَّانِي: أَقلاَمُ المَلائِكَةِ، جَعَلَهَا اللَّهُ بِأَيدِيهِم، يَكتُبُونَ بِهَا المَقَادِيرَ وَالكَوَائِنَ وَالأَعمَالَ.
القَلَمُ الثَّالِثُ: أَقلاَمُ النَّاسِ، جَعَلَهَا اللَّهُ بِأَيدِيهِم، يَكتُبُونَ بِهَا كَلَامَهُم، وَيَصِلُونَ بِهَا مَآرِبَهُم.
وفِي الكِتابَةِ فَضَائِلُ جَمَّةٌ، وَهِيَ مِن جُملَةِ البَيَانِ، وَالبَيَانُ مِمَّا اختُصَّ بِهِ الآدَمِيُّ. وَمَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا يُؤَكِّدُ عَلَى سُمُوِّ مِهنَةِ الكِتَابَةِ، أَو الكِتَابَةِ بِشَكلٍ عَامٍّ، إِذَا مَا تَمَّ تَحَرِّي الدِّقَّةِ وَالأَمَانَةِ فِي كُلِّ كَلِمَةٍ، وَتَوجِيهُهَا نَحوَ هَدَفِهَا النَّبِيلِ وَالمُقدَّسِ فِي الارتِقَاءِ بِالفَردِ وَالأُسرَةِ وَالمُجتَمَعِ، وَتَوحِيدِ كَلِمَتِهِم فِي مُوَاجَهَةِ الأَخطَارِ، وَمَا مَجَازِرُ وَمَذَابِحُ غَزَّةَ عَنَّا بِبَعِيد!
مِمَّا يَحتِمُ عَلَى أَصحَابِ القَلَمِ المُشهُودِ لَهُمُ الاصطِفَافَ، وَتَوحِيدَ كَلِمَتِهِم، وَتَزخِيرَهَا وَإِطْلَاقَهَا فِي وَجْهِ الإِجْرَامِ الدُّوَلِيِّ الَّذِي فَاقَ التَّصَوُّرَ وَالْحَدَّ.
وهذا ليس مجرد واجب، بل فرضُ عينٍ وأمانةٌ في عنقِ كلِّ كاتبٍ، سوف يُسألُ عنها، كما قال تعالى:
﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ﴾ [الصافات: 24].
فَالقَلَمُ - كَمَا قِيلَ عَنْهُ - مِثْلُ القَمَرِ لَهُ نُورٌ، وَمِثْلُ الشَّمْسِ لَهُ ضَوْءٌ، وَمِثْلُ السَّيْفِ لَهُ حَدٌّ، وَمِثْلُ البَحْرِ لَهُ مَوْجٌ، وَمِثْلُ الإِنْسَانِ أَيْضًا لَهُ شَرَفٌ، وَعِنْدَمَا يَمُوتُ القَلَمُ يُصْبِحُ السَّيْفُ بِلا أَخٍ!