د.رشا سمير تكتب: عودة الدفاس وأبودهشوم!
دخل إلى مكتبى رجل أشعل الشيب رأسه، نظراته زائغة، يكسو الأسى ملامحه، يقدم قدمًا ويؤخر الأخرى.. تتنازع الحيرة فى صدره بين أن يروى ليلقى همومه بين يدىّ أو أن يلملم أحزانه ليعود من حيث أتى.. جلس أمامى مترددًا والدموع تتصاعد إلى عينيه لتحكى دون أن تتحدث شفتاه:
«ساعدينى يا دكتورة أشوف حل لابنى».
وسألته: «ما له»؟
رد: «دخل فى دوامة المخدرات، حاولت معاه كل المحاولات، كلمته ونصحته ولما لقيت مافيش فايدة ضربته، شلته ودّيته المصحة.. مرة واتنين وتلاتة وبيرجع تانى.. الولد بيموت قدام عينيا كل يوم ألف مرة، وبقى بنى آدم أنا ماعرفوش..أرجوكى ساعدينى أشوف له حل».
«بيشتغل إيه»؟
«أرزقى.. هو ماكملش تعليمه وبيلم خردة من الشارع زى البلاستيك والصفيح والورق وبيبيعه لتجار الجملة، يعنى عايش اليوم بيومه».
عدت أسأله: «وبيجيب فلوس المخدرات منين»؟
«بيسرق فلوس من البيت.. بيبيع هدومه الجديدة.. بيسرق جهاز أخته من وراها ويبيعه».
فاضت دموعه.. وفاضت مشاعرى.. لم أعد أعرف كيف سأسدى نصيحتى إليه!.
عادت كل الأشياء تتدافع إلى رأسى وأنا أستمع إليه.. تذكرت فيلم «العار» واللقطات الشهيرة للإخوة الثلاثة، الضابط وتاجر المخدرات والفهلوى الذين راحت حياتهم وثروتهم لأن «الدفاس وأبو دهشوم» نسيوا «يفيّشوا الهوامش»! فرقدت المخدرات وضاع مستقبلهم فى قاع الملاحة!.
تمنيت أن الدفاس وأبودهشوم لم يبيعا ضميريهما للأبد فى كل صفقات المخدرات التى دخلت إلى مصر والتى أودت بحياة ومستقبل أجيال وشباب فى عمر الزهور ندهتهم النداهة ليسقطوا فى بئر الإدمان السحيقة.
المخدرات مشكلة قديمة. فى المؤتمر الدولى لطب المناطق الاستوائية المنعقد بالقاهرة عام ١٩٢٨، قدم الدكتور عبدالوهاب محمود بحثًا عن المخدرات فى مصر، ذكر فيه أنه حتى عام ١٩١٤ كان تعاطى الحشيش والأفيون منتشرًا بين الطبقات المتوسطة بينما وجد المورفين والهيروين والكوكايين الطريق للفقراء. بعد الحرب، انخفض عدد مدمنى الكوكايين لارتفاع سعره مقارنة بالهيروين بحسب الإحصائيات فى ذلك الوقت والتى أوضحت أن ٦٥٪ من المدمنين يتعاطون الهيروين مقابل ١٠٪ للحشيش و٣٪ كوكايين والباقى يتعاطون أنواعًا أخرى.. فى عشرينيات القرن الماضى، طالبت مصر عصبة الأمم بوضع الحشيش على قائمة أخطر المخدرات، أما اليوم فأصبحت الدول تطالب بتقنينه، بل اعترفت به دول أخرى!.
كما ظهرت على الساحة أنواع جديدة من المخدرات، الآيس والاستروكس والماجيك مشروم وغيرها من الأسماء العجيبة التى نسمع عنها كل يوم، هناك أيضًا غش يتم فى خلط المخدرات حتى يصبح سعرها فى متناول الجميع، مما أصبح يعرض المدمن بعد تعاطيه لهذه الخلطات المغشوشة إلى الإصابة بالشلل الرباعى، وفى كثير من الأحيان إلى الموت المفاجئ!.
طال تعاطى المخدرات الجميع، الطبقة الكادحة التى ترتاد الأرصفة تحت الكبارى فى مناطق مثل فيصل والسلام والزاوية الحمراء فى حالة من اللاوعى والتغييب، حيث تجارة المخدرات على الأرصفة عينى عينك ولا يجرؤ أحد على التدخل بالمنع ولا حتى بإسداء النصيحة.
والطبقة الثانية هى طبقة أولاد الذوات، الذين تمتلك أسرهم المال وبكل أسف لا يمتلكون الأخلاق.. الذين يمتلكون الوقت للسفر والحفلات والبيزنس، ولا يمتلكون الوقت لمراقبة أبنائهم وتوجيههم، أو حتى تربيتهم (والعياذ بالله)!.
هؤلاء من يسكنون الكمبوندات والأحياء الراقية ويذهبون إلى المدارس الدولية والجامعات التى تُدفع مصاريفها بالدولار، أطفال ومراهقون مصروفهم الأسبوعى فاق شهرية طبيب حديث التخرج، يمتلكون سيارات وهم ما زالوا فى المدارس، أوامرهم مجابة وأحلامهم يحققها الأهل بكارت ائتمانى بلا حد أقصى!.
حوادث تشيب لها الرؤوس.. سرقة وضرب وقتل واغتصاب بسبب عقولهم الغائبة طول الوقت.
قنبلة موقوتة على وشك الانفجار.. وهنا أتساءل: أين دور البرلمان فى طرح وعلاج هذه الكارثة؟ لماذا لا نهتم بإنشاء مصحات على مستوى علاجى جيد لتقديم برامج جادة للتعافى ومساعدة المدمنين دون إمدادهم بالمخدرات من الباطن؟!.
والأهم أين دور الأسرة؟ أين الأب الذى كان يومًا قدوة لأبنائه وربان سفينتهم؟.. أين الأم التى كانت عونًا وسندًا؟ أين دور المدرسة التى كانت ترفع يومًا شعار التربية قبل التعليم؟.
تعددت الأسباب والموت واحد.. شباب ضائع، فى صراع مع التحديات اليومية، وشباب يجد المال الزائد بين يديه.
فى ظل زمان الكل فيه يلهث وراء المادة، غابت الكثير من القيم، والأهم خفت دور الوازع الدينى الذى كان يومًا بمثابة البوصلة فى نفس كل إنسان يوجهه ويدفعه لفعل الصواب، ابتعد البشر فى خضم الصراع المحموم وراء المادة عن المعنى الحقيقى للدين وهو الأخلاق. أتمنى أن تتكاتف كل الجهات وتتضافر الجهود لمحاربة آفة المخدرات، إنها المعركة التى يجب أن نخوضها جميعًا من أجل بلدنا وشبابنا.. فهل من مجيب؟!.