د. عزة هيكل تكتب.. الضمير والجمال
عندما يصبح الضمير فى محنة، فإن كل القيم تتهاوى وتهتز، ويختفى الجمال والحق والخير من الحياة، ويعوجّ السلوك البشرى وينحرف الإبداع الفكرى وتنقلب منظومة ومصفوفة الأخلاق والمبادئ، وهذا يحدث نتيجة عدة أسباب سياسية واقتصادية.. ولكن فى المقام الأول فإن الخلل يرجع إلى منهجية التعليم الأوّلى وما قبل الجامعى، وكذلك التعليم الجامعى وما بعد الجامعى.
وانتشار الجامعات والمؤسسات والهيئات التى تتبارى فى منح درجات علمية أكاديمية تختلف عن الدرجات المهنية، وهذه الدرجات العلمية الأكاديمية تعنى أن حاملها له الحق فى التدريس والمحاضرة والإشراف على رسائل علمية بحثية، وهنا مربط الفرس وأصل المشكلة الكبرى.
فالعلوم الطبيعية والعلمية والتكنولوجية لديها بمعايير بحثية فى الدراسات الأكاديمية، وهى وإن كانت معايير صارمة أو منضبطة إلا أنها مازالت غير مطبقة ومفعلة فى الحياة العملية، ولا تتم الاستفادة منها وإنما مصيرها المحتوم هو الأدراج والأرفف وملفات على شاشة الحواسب.. وهو ما ينطبق أيضا على الأبحاث العلمية التى يقضى فيها الباحثون عمرًا حتى يحصلوا على درجات ترقية.
بداية من أستاذ مساعد إلى أستاذ، أو يشاركوا بها فى المؤتمرات العلمية المحلية والدولية ضمانًا للترقى والتواجد والحصول على المناصب، ولا يتم التعامل مع تلك الكنوز العلمية؛ لأن الكثير منها نظرى وليس عمليًّا؛ أى أنها نظريات فى مجملها تحتاج إلى تطبيق وسياسات إدارية واقتصادية ودراسات جدوى وتسويق حتى نستفيد منها، لذا فإن تكامل البحث العلمى أمر مهم وضرورى.
فعلوم الإدارة والتسويق والمحاسبة من الممكن أن تكمل دائرة الأبحاث العلمية والتكنولوجية لتحقيق الحد الأقصى من الفائدة للمجتمع والوطن، فأساتذة الهندسة والطب والصيدلية وعلوم الحاسب والذكاء الاصطناعى والزراعة بحاجة إلى فكر وإدارة واستراتيجية أهل العلوم الإدارية والاقتصاد والتسويق.. وفى مجال العلوم الإنسانية والآداب واللغات والتربية والإعلام.
علينا جميعًا أن نعترف بأن العديد من الدراسات والأبحاث والرسائل الأكاديمية لا تغنى ولا تسمن من جوع، وإنما هى تحصيل حاصل للحصول على الدرجة والترقية.. والعديد من الأستاذة بكل أسف قد تخلوا عن الضمير العلمى من أجل أن يحصلوا على سمعة «الدكتور دا سهل.. سجّل معاه.. دعه يشرف عليك.. أحسن مناقش لك لن يتكلم كثيرًا».. تلك هى مفاتيح الفرج الأكاديمى.
فى العلوم الإنسانية بكليات اللغات والآداب نهتم بالقشور والفرعيات، وندرس آداب الغرب والشرق والجنوب والشمال ولا نهتم بنقل الأدب العربى والثقافة العربية إلى الآخر من خلال الأدب المقارن وحركة ترجمة ونقد واسعة تضعنا على الخريطة الأدبية العالمية مثلما حدث مع الأدب الصينى والروسى والهندى والإفريقى واللاتينى.
فما أهمية دراسة أديب غربى دون ربط هذه الدراسة بالأدب المصرى والعربى؟ وما أهمية دراسة ما يصرح به رؤساء غربيون إذا كان هذا لا ينعكس على واقعنا وحياتنا ويفيدنا؟.. أما الدارسات اللغوية، فهى دراسات أفرع وليست أصولًا، وعلينا الاهتمام بالدراسات التى تحسّن من تعلم اللغات، وكذلك اللغة العربية.
وفى مجال دراسات الإعلام، فإن الموضوعات سطحية، معظمها يتبع منهج الدراسة الاستقصائية والكمية، من نسب مشاهدة أو تفاعل أو رفض، وتتوارى الدراسات الكيفية، ومنهجية البحث فى المضمون، وعقد مقارنات عن المحتوى وفق مناهج ومدارس نقدية حديثة ومتعددة.
وقد تتداخل العلوم الإنسانية من علم النفس وتاريخ واجتماع وسياسة ونقد وفن ولغة مع العلوم الإعلامية، لنصل إلى تطور فعلىّ وجاد فى هذا المجال يستفيد منه المجتمع.. نريد عودة الضمير الأكاديمى لننعم بالجمال والحق والخير.