وفاء أنور تكتب.. من أجل فوزي
أغلبنا له رصيد كبير من الذكريات المخبأة بداخله، بعضها محرج نتجنبه، وبعضها طريف نستدعيه عندما نشعر بقتامة المشهد الذي نعيش فيه، لعله يجلب لنا قدرًا من السعادة ويمنحنا الضحك؛ تهب علينا نسائم ذكريات طفولتنا، تستدعينا للإبحار فيها، فنفتش بداخلها عن المساحات الخضراء، ننعم باستنشاق عبير أزهارها الندي، نستحضر الأمل وننشد البقاء هناك حيث القلوب الصافية الخالية من كل رياء أو مبالغة.
توقفت بي ذاكرتي لبعض الوقت في تلك المحطة البعيدة حينما كنت تلميذة أدرس في المدرسة الابتدائية، كانت البنات في تلك الحقبة تتأثر بالتربية الشديدة التي تخضع لعادات وتقاليد صارمة ينص معظمها على الالتزام بعدم الاختلاط بين البنين والبنات، كان الاختلاط مرفوضًا رفضًا قطعيًا حتى وإن جاء هذا الاختلاط بدافع اللعب، ونحن كنا بدورنا ننفذ ما نؤمر به، فهذا كان مجتمعنا وتلك كانت عاداته وتقاليده، أوامره ونواهيه.
وكعادة البنين في هذه السن الصغيرة كانوا يميلون لللعب المقترن بالحركة الزائدة، إذ يعدون له خططهم، يرسمونها كي يتقاسمونها معًا فيما بعد، منهم من كان يدعي البطولة وينشيء فريقًا منصبًا نفسه زعيمًا عليه، ومنهم من كان يفاخر بتميزه عن أقرانه في قوته مستدعيًا خيال لاعبي المصارعة والكاراتيه، مدللًا بذلك على مدى شجاعته وإقدامه.
وها هو "فوزي"زميل الصف والفصل، صاحب القصة التي عدت من أجل استحضارها من جديد، أبحرت لأجله في متاهات ذاكرتي لأستخرجه وأسرده عليكم بالتفصيل. كان فوزي يتصف بخفة الظل وبقدر لا بأس به من خفة العقل؛ فهو لم يكن يكترث بنتائج أقواله وأفعاله، كان مغامرًا مهووسًا، مهرجًا كبيرًا لحد الانفلات، فهو لا يخضع لقوانين أو تعليمات، مسرف في حماقته وغير متزن.
أما عني فقد كنت هادئة، لي عالم مختلف بعض الشيء عمن حولي، أسافر مع الخيال، أعشق التأمل، أعادي الصخب طوال عمري، جادة منذ صغري، أمقت التفاهة والمزاح الزائد عن الحد؛ ها هى الذكريات تأخذني معها لهذا المشهد، عندما دق جرس الفسحة، ونزلنا من فصولنا إلى فناء المدرسة، البعض يجري كأنه تحرر من سجنه، والبعض يجلس ليتناول وجبته كي يسارع بعدها ليلحق بزملائه في اللعب.
كنت حينها أجلس هناك على ذلك المقعد الخشبي أتناول طعامي بالقرب من مدخل حديقة مدرستي؛ جاء فوزي مهرولًا نحوي كالعاصفة الهوجاء حاملًا معه عبوة من البسكويت، مد بها يده قاصدًا إهدائها لي، فانتفضت واعتذرت عن قبولي لها؛ لكنه لم يستسلم لرفضي هذا فراح يزيد من رفع سقف توقعه لقبولي لها أمام إلحاح منه شديد، قررت أن أغادر المكان لأجله، لكنه لم ينته بل ظل يطاردني، يناديني قائلًا: "عروستي.. عروستي"
مللت فوزي وشجبت فعلته التي حولتني لأضحوكة وقصة تتردد على ألسنة زملائي وزميلاتي، وأصبحت لنا حكاية تروى تشبه حكايات العشق، مما جعلني أشعر بالحرج والخجل؛ فقررت في ثوان ودون تردد أن أذهب لمعلم الفصل؛ وقفت باكية وشاكية له من سلوك وأفعال فوزي، بدأ الغضب يرتسم على وجه المعلم، ثم دعاه وقام بنهيه عن مضايقتي، بكى فوزي بعدما عاقبه المعلم أمام الجميع، وأمره بتقديم الاعتذار لي.
اعتذر فوزي دون اقتناع منه بخطئه على ما يبدو، فقد قام عقب ذلك بفتح عبوة البسكويت، ليتناول ما بداخلها من قطع -بكل نهم- يلتهمها مبللة بدموعه التي تسيل؛ فيطلق المعلم ضحكاته العاليات، ويضج بعدها المكان بعاصفة من ضحك طويل.