منى نشأت تكتب.. صباح الأرواح
مشت بي الروح.. سلمتني لبيت أبي العتيق بما بقي فيه.. اتجهت للشرفه.. تلهث عيوني بحثا عمن كانوا منذ عشرات السنوات.. حبايب الدار.
(رأيتها أمامي أشرت لها بتحيه لم يلتقطها نظرها. رفعت صوتي بالسلام.وتأكدت أن الأذن ليست أفضل حالا من العين.وتخيلت ما وصلت إليه باقي الحواس.
(مكان هذه الجاره المسنه كانت تسكن قمر .أجمل فتاه رأيتها في حي شبرا الحبيب . كنت في العاشره من عمري حين أنزلوا "عفشها"من عربة نقل نقلتها لشارعنا.فوقعت عيني عليها ووجدتني أكمل صورة بشاره الخوري التي غناها عبد الوهاب.."الصبا والجمال ملك يديك..أي تاج أعز من تاجيك"..مبهره هي وكأن أمها تنبأت بملاحتها وهي في "اللفه".فأسمتها.."قمر".
(رائعة القسمات الدقيقه الرقيقه..بمقاييس جمال تختلف تماما عما طرأ من نفخ ومسخ. كنا أمام عدسة المصور ندخل طرف الشفاه للداخل لتبدو أقل سمكا لنترك للرجل التميز.
وكان القد بضا .. يأكل حتي يكتفي ويكفي.
(يوم رأيت "قمر "جريت علي أخي..أخبره بعروسه جمالها أخاذ..وبثبات وتأني أعطاني درسه..الرجال لايتزوجون الجميله..والبحث يبدأ بالفاضله..فلتكن السيره والخلق الطيب بعدها نختار الشكل.
(سيئة السمعه)
(كبرت قليلا وعرفت أن أخي علي حق.قمر سيئة السمعه.أراها في "البلكونه" تشير لهذا وتضحك لذاك.يطربها صفير أولاد الجيران .. فتتمايل بشعر كالليل يحيط بوجه كالفجر أطل بفجر بعد أن ضم الفاء.
(تعجبت حين أخبرتني إحدي الجارات أن المرأه فاقدة الحواس هي نفسها التي كانت.."قمر".وما من نافذه يطل منها عليها جار ولو بنظرة شفقه.
(أعشق زيارتي لبيت أبي..والاسترخاء علي المقعد الذي كان مفضلا لأمي ..وحكاية حب أبي للقادمه من البلد الآخر وزواجهما في بيت أنيق تحيطه حديقه..لتكتشف في الجانب البعيد منها بيتا للصوص وكبيرهم كان يسمي شيخ منصر وأصلها شيخ منسر.وهو النسر حين يخطف بمنقاره كنايه عن السرقه.
سمعتهم أمي تحت شجره يقتسمون سرقاتهم ويخططون للهجوم التالي.فطلبت من أبي ضرورة ترك البيت.
(كان الرجال وقتها يطمئنون خوف زوجاتهم. و إمكانياتهم تسمح بتغيير السكن.
(طلبت أمي شقه في دور مرتفع بين جيران في حي مزدحم بالبشر لايصلح لإختباء لصوص..
(وكانت شبرا حبيبتي وفيها تشكلت حالتي.إخوتي كلهم ولدوا في بيت يحيطه الأخضر..وحدي جئت وحولي قلوب بيضاء..عشت وسط الناس.
(حبايب الدار)
لا أحد يصدق أنني أتذكر لحظة ميلادي وفرحة أبي وموقع كل أخ من إخوتي. وأختي حبيبتي رحمها الله وكيف التقطتني من أمي وأكملت .. كأم حنون.
أذكر ألوان ملابس إخوتي الرجال وكان لي وقتها اربعه.
(لم يعد يهم الآن ان يصدقني أحد..فلم يبق مما كان سوي جدران أبتليت بما إبتلانا به هذا الزمان.
(سأمتع نظري بالمنظر البديع جارنا الطيب طول عمره.. وزوجته العطوفه وبينهما براد شاي من الصاج الأبيض وفناجين صيني مرسوم عليه روميو مع جولييت .وكانت اجمل نقوشات الاطقم والقلوب.
(مازال بينهما كلام..تسمعه بقلبها ويراها بروحه.هما بحسبه سريعه فوق السبعين..
(علي الحائط علقت أمي لوحه لرجل مسن يلف يده حول كتفي زوجته يسيرا معا يحميها وتسنده أحبتها أمي وعاشتها حتي آخر عمرها وأبي.وورثت منها..اللوحه.
(إستدرت ..ونظرت أبحث بين الجيران..رأيت حجره مكشوفه بالدور الثاني. رجل وحيد رغم إزدحام الصاله خلفه .وكأني رأيتهم جميعا وراء جهاز أشعه يجيد التشخيص.لا إبن ولاحفيد ينادي الجد .فداخل الصدور يقين بعدم الإستجابه.كانت القسوه عادته والخوف منه سكنهم رغم أن الرجل لم يعد له بطش.لكنه الخوف صار داخلهم" منه..فيه"
(أخرجهم من حياته وعاش العبث..فتركوه يغادر الحياه..حيا.
(عيونه هاربه داخله بين الجبهه وعظام الوجنتين.وأصابع من عظم دون غطاء من لحم..ذكرني برواية قصة مدينتين التي تصف الشعب وقت الثوره الفرنسيه.حين كانوا يجرون علي الماء يأخذونه في كفوفهم فيخرج من بين أصابعهم ولايصل لفمهم من فرط نحافة الفقر.حسب وصف تشارلز ديكنز للطبقه الفقيره تحت القمع.
(وأعود لهذا الرجل الجالس دون أنيس..بعد أن أضاع أسرته.حاولوا الوصول به لأمان العائله .لكني مازلت اتذكر صوته يخترق الجدران..من موبوء اللسان..عقيم الجوارح..مبتور الإنسانيه..معدوم الآدميه..أبعد الكل بغلظه فانفضوا من رفقته.
(حاسب عليه)
(طفولتنا مسؤلية أهلنا..والشباب علينا نحن ان نرسم منه باقي العمر..ليبقي لنا ..حسن الختام.
أغادر البيت أخلف ورائي علي كل شرفه عبره..ذكري.