محمد الغيطي يكتب.. حاجة تخوف من خالد جلال
منذ سنوات أتابع ظاهرة فنية مصرية تُدعى خالد جلال، هذا المبدع الذي يُعتبر صناعة مصرية محضة. لا أعلم كيف تسلل إلى حياتنا في صمت، ثم جلجل وصدح، وبرز بموهبته الفذة. يسبح منفردا في بجر الظلمات الفني الذي حوله لضوء في نفق عام ! هل يمكن لأحد في بلدنا أن يصل بموهبته فقط، دون الحاجة إلى القرايب والتربيطات والشلل، والمجالس المريحة مع صناع القرار وأصحاب الكراسي؟ إنه لأمر عجب. كيف أفلت هذا الفتى من عنكبوت الروتين وسنابك البيروقراطية وحاملي معاول الهدم من حزب أعداء النجاح وزومبي المواهب؟ الحمد لله، أن ظاهرة خالد جلال أكدت بيقين أن المؤمن بموهبته والساعي نحو هدفه، من يمتلك الطموح والدأب، سيصل حتمًا بقانون الإيمان بالخالق المبدع الأعظم العادل، سيصل بقانون الكارما ونقطة التوازن، سيصل بقانون نيوتن وآينشتاين وداروين. قال أينشتاين: "الجهد تسعة أعشار النبوغ"، وقال نيوتن: "امتلك بسنت موهبة وبدولار جهد، وبكل طاقتك شغف وحب لما تفعل، حتمًا ستصل إلى هدفك."
هكذا كان خالد جلال، الراهب في محراب الفن الصامت إلا في معبده المسرحي. فهو خارج المعبد كائن يبدو لك أنه موظف أرشيف من عهد ثورة ١٩ لكنه داخل معبده أسد هصور، ملك لا يمكن لأحد أن يكشكشه، لأنه يحرك كل مفردات اللعبة على طاولته مثل خباز عتيق في فرن موهبته. أذكر أن أستاذتي نهاد صليحة قالت أمامي منذ سنوات: "تذكروا، هذا الولد له مستقبل مشرق، فقط يحتاج إلى فرصة." لكن الفرصة لم تأت لخالد مثل تفاحة نيوتن أو موجة سقراط في بحر الفلسفة، بل اقتنصها وخطفها وروضها، ومنح نفسه صك الريادة ليصنع عصراً جديداً للمسرح المصري. صحيح أن الفرد لا يصنع ظاهرة، وصحيح أنني لاأجد له ولأمثاله تلاميذ يصنعون تياراً، لكن هذا الأمر مرهون بالمناخ والسياق الفني والاجتماعي والسياسي والثقافي. أقول بيقين إنه لولا تجربة هذا المبدع، لغرقنا في بحر اليأس ولورينا جثة المسرح المصري التراب. ؛ وجود خالد جلال بصنيعه أعطانا الأمل واحتمالية النهوض من الهمود، والميلاد من الموت، والوقوف من الكبوة. هو يعزف خارج السرب ويقدم لنا أجيالاً من الممثلين والمشخصاتية يجددون دماء الفن المصري المتعفن والمسمم منذ سنوات .. انظروا كم من الممثلين خرجوا من تحت يديه وصاروا نجوماً، وأجمل ما فيهم أنهم يعترفون بفضله. أقول كل هذا وأنا أراقب كل تجربة جديدة بشغف، واستمتع بتجديد عيني وذائقتي بإبداعه المتواصل الذي لا ينضب.
مؤخراً شاهدت عرض "حاجة تخوف" دفعة علي فايز، بطولة واحد وخمسين ممثلاً وممثلة. تخيلوا تحريك وإدارة هذا الكم من الممثلين الذين يمثلون دفعة كاملة درست ودخلت ورش الأداء، وكلهم مواهب ومشاريع نجوم تضخ دماءها الفنية في نهر الإبداع المصري. حتى الممثلة المحترفة هبة كامل قالت لي إنها جاءت بعد سنوات الاحتراف لتجدد طاقتها، ومعها محمد حسيب، وأشرف مهدي، ومي حمي، ونادر جودة، ويحيى محمود، ونهى نبيل، ومحمد نديم، متعدد المواهب وفنان تشكيلي وصحفي، وأتمنى أن يأخذ فرصته الحقيقية، وأيضاً خلود خالد، وشريف رجب، ومحمد سراج، وأسماء غنيم، ونورا نبيل، وشريف إسماعيل، ونانسي السمري، ومدرنا سليم، وأحمد خليل، وجهاد أشرف، ومحمود كراتشي، وحبيبة زيتون المرعبة الواعدة، ومجدي حمزة، ولقاء الصيرفي، وعمر أسامة، وسلمى هاني، ونزار سيف، وآية وأمنية، وعمر، وشيماء، وحبيبة النادي، وشاهدنا علي، ومنار إبراهيم، ومنار عمار، ودنيا حلمي، ورامي، وسلمى، وأحمد حسام، ومريم، ومارك، وقرشي، ونسمة نور الدين، وباسم، وسيف، وعبده. جميعهم مواهب مدهشة وواعدة.
مع إضاءة وليد فوزي وعبد التواب، وموسيقى محمد سراج ومارك نادي، وديكور أشرف مهدي، ونديم، ونادر جودة، وإشراف الغرباوي، ومخرج منفذ علا فهمي، كان العرض بسيطاً ولكن مؤثراً. كل منا داخله سر أو موقف يحرك غريزة الخوف وربما يمثل عقدة حياته. ماذا لو نظر في المرآة وواجه خوفه؟ هي "حاجة تخوف"، لكنها تعالج وتظهر. جمع العرض الكثير من المواقف والعلاقات الإنسانية والاجتماعية، وتطرق لفساد المجتمع والأشرار الذين يسحقون القيم لتحقيق مصالحهم، وذلك بإيقاع منضبط وسينوغرافيا متدفقة وثرية. لكن كنت أتمنى أن يتم تكثيف العرض ليكون ساعة ونصف بدلاً من ساعتين وبضعة دقائق. أعتقد أن تواتر المشاعر وكثرتها كان بسبب إتاحة الفرصة لأكثر من خمسين ممثلاً وممثلة، ولكن المتعة الذهنية والبصرية تنضح طوال العرض وتنجح في تثبيتك على كرسي المشاهد. خالد جلال يذكرني بتجارب العظام في تاريخ المسرح مثل بيتر بروك والرواد في ستينيات المسرح المصري وعصره الذهبي. لذلك، أتمنى أن يكون هناك فروع للمركز الإبداعي في الأقاليم، ولخالد جلال تلاميذ يبثون الحياة والحيوية والأمل والعزم في خلايا المسرح والفن المصري ليستعيد ريادته وسط مناخ قاتم تتصارع فيه منابر وقوى. شكراً خالد جلال، واستمر.