أول تقويم عرفته البشرية قبل الميلاد.. مصر تبدأ عامًا زراعيًا قبطيًا جديدًا
يوم 11 سبتمبر من كل عام يبدأ عام مصرى جديد، يحتفل به أقباط مصر تحت اسم «التقويم القبطى» أو «تقويم الشهداء» أو «عيد النيروز»، ويحتفلون هذا العام باستقبال عام 1738.
والتقويم القبطى هو تقويم شمسى وضعه القدماء المصريون لتقسيم السنة إلى شهور، معتمدا على دورة الشمس، ويعتبر من أوائل التقاويم التى عرفتها البشرية، وأدقها من حيث ظروف المناخ والزراعة خلال العام، إذ يعتمد عليه الفلاح المصرى فى مواسم الزراعة والمحاصيل التى يزرعها منذ آلاف السنين حتى الآن.
وتبدأ السنة القبطية بشهر توت وتنتهى بشهر نسىء، وهو الشهر الثالث عشر والأخير فى العام القبطى، (شهر قصير، طوله خمسة أيام فى ثلاث سنوات متتالية)، وفى الرابعة (كبيسة) يكون طوله ستة أيام.
عام مصرى جديد يحتفل به أقباط مصر
والنسىء معناها فى اللغة «العقيب»، وعرف بالقبطية باسم «الشهر الصغير».
وتعنى كلمة «النيروز» باللغة القبطية «الأنهار»، وبالفارسية «اليوم الجديد»، وبالسريانية تعنى «العيد»، وأتت لفظة نيروز من الكلمة القبطية (نى- يارؤو) الأنهار، لأن ذاك الوقت من العام هو ميعاد اكتمال موسم فيضان النيل.
وقال الباحث فى الشؤون القبطية والأثرية إسحاق الباجوشى: «على الرغم من توارى التقويم القبطى فى زاوية بعيدة وسط التقويمين الهجرى والميلادى السائدين حاليا، إلا أنه يعد بوصلة الفلاح المصرى، الذى احتضن هذا التقويم وظل يتوارث العمل به ويطبقه فى زراعته.. منذ عرف هذا التقويم لقرون بعيدة عن الأقباط جعلوا رأس عامهم الزراعى الفرعونى رأسا لتقويم جديد سموه (عصر الشهداء)».
عام مصرى جديد يحتفل به أقباط مصر
وأضاف «الباجوشى» أن الأقباط استبدلوا بـ«ذكري فيضان النيل» «ذكري فيضان دماء الشهداء الغزيرة فى عهد دقلديانوس»، الإمبراطور الرومانى الدموى الذي تولي الحكم عام 284 ميلادية واضطهد المسيحيين وقتل الملايين، أكثرهم من الأقباط.
وتتلو الكنائس الأرثوذكسية صلاة أوشية المياه- «أوشية» تعنى «صلاة»- يقول فيها المصلون: «تفضل يارب مياه النهر فى هذه السنة باركها.. إلخ».. وتختتم بدعاء «بارك يا رب إكليل هذه السنة بصلاحك من أجل الفقراء من شعبك، من أجل الأرملة والغريب واليتيم والضيف.. إلخ».
ومن الطقوس الأساسية للاحتفال بعيد النيروز أو رأس السنة القبطية، تطييب رفات وأجساد الشهداء بالعطور والأطياب والحنوط المعطرة، للدلالة على أنهم صاروا رائحة المسيح الزكية.
عام مصرى جديد يحتفل به أقباط مصر
يقول القس يوساب عزت، أستاذ القانون الكنسى بالكلية الإكليركية والمعاهد الدينية، راعى كنيسة الأنبا بيشوى بالمنيا الجديدة، إن جسد أو رفات أو عظام أى شهيد تحظى باحترام وتقديس الناس، لأن الشهيد أو القديس هو شخص تقدست حياته بالإيمان بالله لدرجة أنه لم يتوان أو يتراخ فى تقديم حياته فى حب الله وفى سبيل الإيمان به؛ فاحتمل العذاب والموت.
ويوضح «عزت» أن حياة هؤلاء القديسين عُمّرت بالإيمان والأعمال الإيمانية والروحية، ووضع رفاتهم أو عظامهم أمام الناس وتطييبها بالأطياب ليس على سبيل تكريم الشخص ذاته، ولكن ليكون مثلًا أمام الناس يُحتذى به فى الفضيلة والثبات على المبدأ والإيمان الراسخ، مشيرا الى أنَّ الكنيسة، وفاءً منها لشهدائها الذين قدَّموا أجسادهم مذبوحة ودِماءهم مبذولة، رأت من الضرورى، بل من الواجِب أن تُكرِّم أجسادهم أو رفاتهم فى هذه المناسبة.
عام مصرى جديد يحتفل به أقباط مصر
وفى تقليدٍ معتادٍ، تقوم الكنائس بتوزيع «أكياس» بها أعداد رمزية من تمرات البلح والجوافة على المصلين فى هذه المناسبة، معايدة من الكنائس على الشعب لارتباط هاتين الثمرتين بعيد النيروز.
وفسر القس تكلا نجيب، أستاذ التاريخ الكنسى بالمنيا، راعى كنيسة السيدة العذراء بحرز، تناول الأقباط للبلح والجوافة بأن له معنى رمزيا وبُعدا روحيا، حيث يرمز البلح الأحمر إلي دم الشهداء، وقلبه الأبيض يدل علي نقاء سيرتهم، أما نواته فصلبة لا تنكسر رمزا لصمود الشهداء رغم العذابات الكثيرة، ونفس الرمز بالنسبة لثمرة الجوافة التي تمتاز بقلبها الأبيض وبذورها الكثيرة؛ مثل عدد الأقباط الشهداء.
عام مصرى جديد يحتفل به أقباط مصر
ويقول القس تواضروس، الباحث فى التاريخ القبطى وراعى كنيسة الأمير تادرس بأبوقرقاص: اليوم الأول من شهور العام القبطى هو شهر (توت)، نسبة إلى العلّامة الفلكى الأول الذى وضع التقويم المصرى القديم الذى انفرد به المصريون فترة طويلة من الزمن قبل أى تقويم عرفه العالم بعد شرقًا وغربًا.
وتقديرا من المصريين القدماء لهذا العلامة رفعوه إلى مصاف الآلهة، وصار (توت) هو إله العلم والحكمة والمعرفة، فهو الذى اخترع الأحرف الهيروغليفية، التى بدأت بها الحضارة المصرية، لذا خلدوا اسمه على أول شهور السنة المصرية والقبطية، وهو إنسان مصرى نابغة، ولد فى قرية «منتوت»، ولا تزال موجودة وتتبع مركز (أبوقرقاص) محافظة المنيا بصعيد مصر بنفس اسمها القديم. و«منتوت» كلمة قبطية معناها مكان توت وموطن توت.
عام مصرى جديد يحتفل به أقباط مصر
كانت نشأة التقويم المصرى القبطى فى سنة 4241 قبل الميلاد، أى فى القرن الثالث والأربعين قبل الميلاد، عندما رصد المصريون القدماء نجم الشعرة اليمانية وحسبوا الفترة بين ظهوره مرتين، وقسموها إلى ثلاثة فصول كبيرة (الفيضان والبذار والحصاد) ثم إلى اثنى عشر شهرا، كل شهر منها ثلاثون يوما، وأضافوا المدة الباقية وهى خمسة أيام وربع وجعلوها شهرا سموه «الشهر الصغير»، وسارت السنة القبطية 365 يوما فى السنة البسيطة و366 يوما فى السنة الكبيسة، وقد احترم الفلاح المصرى هذا التقويم نظرا لمطابقته للمواسم الزراعية، ولا يزال يتبعه إلى اليوم.
كانت مدينة الأشمونيين فى المنيا تحتفل برأس السنة المصرية طوال شهر توت تكريمًا له، وعندما دخلت المسيحية مصر على يد القديس مرقس عام 64 م، حافظ المصريون- (وثنيون ومسيحيون)- على الاحتفال بهذا العيد باعتباره أساسًا عيدًا قوميًا لا دينيًا، وكان الجميع يتبادلون فيه الزيارات، ويحرصون على الذهاب إلى المعابد والكنائس لتقديم الشكر على وصولهم لبدء العام الجديد سالمين.
عام مصرى جديد يحتفل به أقباط مصر
وبعد دخول ملوك العرب بلادنا المصرية، وبعد أن رأوا عظمة هذا العيد، شاركوا المصريين فى الاحتفال به، لأنه عيد وطنى جليل القدر، فقد تجلت عبقرية المصريين القدماء فى القرن الثالث الميلادى عندما أقاموا نصبًا خالدًا لذكرى شهداء المسيحية الذين انتصروا بشجاعة وإقدام على الوثنية بأن جعلوا تقويمهم- المعروف بالتقويم القبطى أو تقويم الشهداء- يبدأ بعام 284م ذكرى اعتلاء الإمبراطور «دقلديانوس» للعرش.
يذكر أن التعاون فى دواوين الحكومة كان عبر التاريخ القبطى فى ضبط حساباتها، لأنه التاريخ الطبيعى المنطبق على أحوال مصر الزراعية، واستمر هذا التاريخ المعمول به فى دوائر الحكومة حتى نهاية عهد الخديو إسماعيل، وقد استبدل به التاريخ الميلادى، ابتداءً من أول سنة 1592 ش، الموافق 11 سبتمبر 1875م، 592 ش الموافق 11 سبتمبر 1875م.