أسد الخارجية.. سامح شكري يفضح ”أكاذيب ومراوغات” إثيوبيا..ويؤكد حق مصر في مياه النيل
ملف السد الإثيوبي هو ملف الدولة المصرية ككل، لما يمثله من حساسية بالغة الخطورة، في كلمة تاريخية أمام مجلس الأمن، نجح وزير الخارجية سامح شكري، في إسقاط أقنعة إثيوبيا وفضح أكاذيبها ومراوغاتها طوال حقبة التفاوض حول سد النهضة حيث حملت كلماته التي صيغت بلغة حاسمة وواضحة رسائل عدة تمثل في مجملها موقف مصري واضح لا يقبل التأويل بأن القاهرة لن تقبل المساس بحقوقها التاريخية في مياه النيل وتضع المجتمع الدولي أمام مسئولياته في وقف محاولات إثيوبيا فرض الأمر الواقع والسيطرة على نهر النيل في تحد صارخ لكل المواثيق والاتفاقيات الدولية المنظمة للأنهار العابرة للحدود.
وعبر ما يزيد على 45 رسالة أكد شكري، أن مجلس الأمن الدولي يتحمل المسئولية كاملة فيما يتعلق بأي أضرار قد تلحق بمصر وتضطر حينها إلى اتخاذ ما تراه مناسبا للدفاع عن حقوق شعبها وفق ما يقرره ميثاق الأمم المتحدة.
وإلى نص الكلمة:
سعادة السفير/ نيكولا دو ريفيير - المندوب الدائم للجمهورية الفرنسية لدى الأمم المتحدة ورئيس مجلس الأمن،
أصحاب السعادة المندوبون الدائمون الموقرون للدول الأعضاء بمجلس الأمن،
الأخت العزيزة وزيرة خارجية جمهورية السودان الشقيقة
والأخوة ممثلو جمهورية الكونجو الديمقراطية وأثيوبيا،
أود في البداية أن أُهنئ سعادة السفير/ نيكولا دو ريفيير على توليه رئاسة مجلس الأمن، وأن أعرب عن الشكر للسيدة/ إنجر اندرسن وكيلة السكرتير العام والمدير التنفيذي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، والمبعوث الأممي الخاص للقرن الإفريقي على مداخلتيهما.
السيد الرئيس،
مصر - تلك الأُمة التي يتجاوز تعدادها أكثر من مائة مليون نسمة - تواجه تهديداً وجودياً؛
فقد بني كيانٌ هائل على الشريان الذي يهب الحياة لشعب مصر؛ وارتفع جدار ضخم من حديد وفولاذ بين ضفتي نهر عظيم وعريق، مُلقياً بظلاله الثقّال على مستقبل ومصير الشعب المصري، ومع كل حجر في البناء، يعلو سد النهضة الإثيوبي ويتسع خزانه ليُضيق على شريان الحياة لملايين الأبرياء الذين يعيشون من بعد هذا السد العملاق على مجرى نهر النيل.
وقد أتت مصر إلى مجلس الأمن العام الماضي وشاركت في جلسته التي عقدت يوم 29 يونيو 2020 لتحذر المجتمع الدولي من هذا الخطر المحدق الذي يلوح في الأفق، ونبهت آنذاك إلى قُرب وقوع الملء الأول لهذا السد الأثيوبي، وحذرنا من مغبة السعي لفرض السيطرة والاستحواذ على نهر يعتمد عليه بقاؤنا.ومن هذا المنطلق، فقد ناشدنا هذا المجلس الموقر للعمل بكل جهد ودأب لتجنب تصاعد التوتر الذي سيهدد السلم في إقليم هش، ودعونا أشقاءنا الذين نشاركهم ثروات النيل إلى التحلي بالمسئولية والاعتراف بترابط وتشابك مستقبل وثروات شعوبنا.
ورُغم ذلك، وبعد بضعة أيام من جلسة مجلس الأمن العام الماضي شرعت إثيوبيا - دون مراعاة للقوانين والأعراف – في الملء المنفرد لسد النهضة وأعلن وزير خارجيتها بعجرفة وصلف "أن النهر تحول إلى بحيرة... وأن النيل ملكاً لنا"،
مع ذلك، فإن رد فعل مصر إزاء هذا الاعتداء على النيل اتسم بضبط النفس واتباع درب السلم والسعي للتوصل لتسوية لهذه الأزمة من خلال اتفاق مُنصف يحفظ مصالح الأطراف الثلاثة، كما تبنينا بصدق مبادرة رئيس الاتحاد الإفريقي آنذاك فخامة الرئيس / سيريل رامافوزا رئيس جنوب إفريقيا، لإطلاق مفاوضات تحت رعاية الاتحاد الإفريقي، وانخرطنا على مدى عام كامل في المفاوضات التي عقدها وأدارها أشقاؤنا الأفارقة من أجل صياغة حل إفريقي لهذه الأزمة الكؤود ...
ورغم ذلك، فقد باءت كل تلك الجهود بالفشل.
والآن، وبعد عام من الإخفاق والمفاوضات غير المثمرة، وعلى الرغم من الجهود الحثيثة التي بذلها رؤساء الاتحاد الإفريقي وشركاؤنا الدوليون، نجد أنفسنا مُجدداً، في مواجهة المسلك الإثيوبي الأحادي بملء السد دون اتفاق يضمن حماية شعوب دولتي المصب ضد مخاطره. وهو ما تجلى في إعلان إثيوبيا يوم 5 يوليو 2021 – أي قبل ثلاثة أيام فقط من انعقاد هذه الجلسة - البدء في الملء الثاني للسد بشكل أحادي.
إن هذا السلوك الفج لا يعكس فقط انعدام المسئولية لدى الجانب الإثيوبي وعدم المبالاة تجاه الضرر الذي قد يلحقه ملء هذا السد على مصر والسودان، ولكنه يجسد أيضاً سوء النية الإثيوبية، والجنوح لفرض الأمر الواقع على دولتي المصب في تحد سافر للإرادة الجماعية للمجتمع الدولي والتي تم التعبير عنها وتجسدت في انعقاد هذه الجلسة لمجلس الأمن لمناقشة هذه القضية واتخاذ إجراء حاسمة بشأنها.
وفي هذا الصدد، فإنني آخذ علماً وأثني على الاتحاد الأوروبي لإصداره اليوم بياناً يعرب فيه عن أسفه لبدء إثيوبيا الملء الثاني لسد النهضة من دون اتفاق، وأُشجع مجلس الأمن وأعضاءه على اتخاذ موقف مماثل في أعقاب هذا التطور المثير للقلق البالغ.
هذا النهج الإثيوبي وتصرفاتها الأحادية المستمرة تفضح عن تجاهلها - بل وازدرائها - لقواعد القانون الدولي، وتكشف أهدافها السياسية الحقيقية والتي ترمي إلى أسر نهر النيل والتحكم فيه وتحويله من نهر عابر للحدود جالب للحياة إلى أداة سياسية لممارسة النفوذ السياسي وبسط السيطرة، وهو ما يهدد بتقويض السلم والأمن في المنطقة.
لهذا، سيدي الرئيس، اختارت مصر، مجدداً، طرح هذه القضية الحيوية على مجلس الأمن مجدداً.
إن التصرفات الأحادية الإثيوبية المستمرة، والإخفاق المتواصل للمفاوضات، مع غياب أي مسار فعال وجاد - في هذا المنعطف - لتحقيق تسوية سياسية لهذه القضية الحيوية، هي الاعتبارات التي دفعت بمصر إلى مطالبة مجلس الأمن بالتدخل العاجل والفعال لمنع تصاعد التوتر ومعالجة هذا الوضع الذي يمكن أن يعرض الأمن والسلم الدوليين للخطر، وذلك وفقاً لما هو منصوصٌ عليه في المادة "34" من ميثاق الأمم المتحدة.
ولقد جاءت مصر إلى مجلس الأمن من منطلق إيماننا الراسخ بقيمة القانون الدولي، واقتناعنا المتأصل بأهمية وفاعلية العمل متعدد الأطراف كأداة لتعزيز السلام ومنع الصراعات والنزاعات. ويقودنا في ذلك التزامنا الراسخ بالمبادئ التي أسسها وقام عليها ميثاق الأمم المتحدة، وإيماننا وثقتنا الدائمة في قدرة مجلس الأمن على الاضطلاع بمسئوليته في الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين من خلال اتخاذ ما يلزم من تدابير لمعالجة أزمة هذا السد الإثيوبي. وكذلك انطلاقاً من حقيقة أن من الفوائد الكبرى التي يسديها هذا المجلس للإنسانية تكمن في سلطته وقدرته على التحرك بشكل استباقي لحماية وصون السلام، وليس الاحجام أو إبداء عدم الاكتراث عند تعرض حقوق الدول وبقائها للتهديد.
السيد الرئيس،
لقد انخرطت مصر، وبفاعلية، على مدى عقد كامل في المفاوضات ذات الصلة بالسد الإثيوبي. ورغم شروع إثيوبيا بشكل منفرد، في بدء تشييد هذا السد بالمخالفة للالتزامات الدولية المفروضة عليها كدولة منبع يتعين عليها الإخطار المسبق والتشاور مع دول المصب، فقد سعت مصر إلى التوصل لاتفاق يضمن حقوق الدول الثلاث ويعزز من مصالحها المشتركة.
وكان يحدونا الأمل، ولايزال، في التوصل إلى اتفاق ملزم قانوناً يمّكن أثيوبيا من تحقيق أهدافها التنموية المرجوة والمتمثلة في توليد الطاقة الكهرومائية في أقرب وقت، وبفاعلية وعلى نحو مستدام. ويعكس ذلك أن مصر ظلت - ولا تزال - على دعمها لاستقرار أثيوبيا ورفاهية شعبها، وهو ما يعكس سياسة مصر الثابتة والمعهودة في تعزيز وزيادة فرص التعاون المشترك مع أشقائنا من دول حوض النيل. إلا أن أي اتفاق قد نصل إليه حول السد الإثيوبي يجب أن يكون منصفاً ومعقولاً، وملزماً قانوناً، ويتضمن تدابير وإجراءات لتفادى تأثيراته السلبية على دولتي المصب، خاصةً في فترات الجفاف، ولمنع حدوث أي أضرار جسيمة بالمصالح المائية لكل من مصر والسودان، ولضمان صون
أمن وفاعلية وكفاءة التشغيل لسدود دولتي المصب، كما يجب أن يضمن عدم تعرض أمن مصر المائى للخطر جراء ملء وتشغيل هذا السد الذى يمثل أكبر منشأة كهرومائية في أفريقيا.
وفي هذا السياق، علينا أن نعي أن تحقيق هذا المراد من إبرام اتفاق عادل ومتوازن بشأن السد الإثيوبي لا يعد أمراً بعيد المنال أو غير قابل للتحقق؛ خاصة إذا أدركنا أن الإخفاق المستمر للمفاوضات لا يرجع إلى غياب الحلول العلمية السليمة للأمور الفنية العالقة أو لغياب الخبرة القانونية المطلوبة لصياغة اتفاق في هذا الشأن، وإنما يظل السبب الأوحد للفشل الإخفاق المستمر هو التعنت الاثيوبي.
وليس أدل على ذلك مما جاء في خطاب وزير الخارجية الإثيوبى، المؤرخ في 23 يونيو 2021، والموجه إلى مجلس الأمن: والذى ذكر فيه " إن ملء وتشغيل سد النهضة دون السعي للتوصل إلى اتفاق مع مصر والسودان، لهو مجرد ممارسة للحد الأدنى من حقوق إثيوبيا السيادية كدولة مشاطئة في مجرى مائى دولى".
سيدى الرئيس، إن فحوى هذه العبارة ومضمونها يجسد أساس وسبب المشكلة التي نحن بصددها، ويكشف عن حقيقة جلية وهي أن مرجع ومصدر هذه الأزمة سياسي بامتياز.
إن هذا يكشف عن أن أثيوبيا تتصرف من منطلق فرضية أن انخراطها في المفاوضات إنما يأتي من باب المجاملة أو المنّ، حيث دأبت إثيوبيا على تجاهل حقائق الجغرافيا وتوهمت أن النيل الأزرق هو نهر داخلى يمكن لها استغلاله لمصلحتها الحصرية، كما يبدو أنها تفترض أن هذا المجرى المائى الذى ينساب بشكل طبيعي وحر إلى أراضى دولتي المصب يمكن إخضاعه لسيادتها وسيطرتها.
لقد هذا النهج الإثيوبي المؤسف قد أحبط وأفشل كل الجهود المبذولة للتوصل إلى اتفاق حول هذا السد، حيث انعكس هذا التوجه في مواقف أثيوبيا على مدار عقد كامل من المفاوضات.
ولعل أكبر مثال على هذا التعنت الإثيوبي هو رفضها المستمر لإبرام اتفاق قانونى ملزم في هذا الشأن، ومعارضتها لتسمية الوثيقة التي يتم التفاوض حولها بأنها " اتفاقٌ"، بل أن إثيوبيا قد اقترحت وصفها بـأنها مجرد "قواعد إرشادية ".
كما تعارض أثيوبيا تضمين الاتفاق أحكاماً ملزمة لتسوية المنازعات، وتصر في المقابل على صياغة الاتفاق بالشكل الذى يضمن لها اليد العليا في تعديله وتغييره بشأن كيفما تشاء.
وقد سعت أثيوبيا لتبرير هذه المواقف غير المنطقية عبر التذرع بحجج واهية من قبيل الظلم الذى تعرضت له بسبب ما تطلق عليه الاتفاقيات الاستعمارية أو الوضع القائم غير المنصف. وهى في ذلك لا تمُت للواقع بصلة. فلم تكن أثيوبيا في يوم من الأيام مستعمرة، كما أنها لم تبرم أي اتفاقية تتعلق بالنيل تحت الإكراه أو القسر، كما أن مصر لم تعارض مطلقاً حق أثيوبيا في استغلال موارد النيل الأزرق.
إن ما تنتطره مصر – بل وتطالب به - هو أن تمتثل دولة المنبع التي تشاركنا نهر النيل للالتزامات القانونية الدولية المفروضة عليها، والتي تقتضى منع إلحاق الضرر الجسيم بمصالح وحقوق جيرانها من دول المصب؛ بينما في المقابل تسعى أثيوبيا لاستخدام المفاوضات كبابٍ خلفىّ لتكريس حق مطلق لذاتها لتشييد مشروعات مستقبلية على مجرى النيل الأزرق دون ضوابط أو معايير تحكمها، وتطالب دول المصب بالإقرار بسيطرة إثيوبيا المطلقة على النهر.
وقد عبرت إثيوبيا عن هذا التوجه عنه بشكل لا لبس فيه في خطاب لوزير المياه الأثيوبي مؤرخ في 8 يناير 2021 ذكر فيه أنه "لا يوجد أي الزام على إثيوبيا سواء بموجب القانون أو الممارسة للتوصل إلى اتفاق مع دولتي المصب لتشييد سد النهضة أو أي مشروعات مائية مستقبلية."
كما وضعت إثيوبيا هذه السياسة موضع التنفيذ حينما أعلن رئيس وزرائها يوم 30 مايو 2021 أن بلاده تخطط لتشييد ما يزيد على مائة سد خلال العام المالى
القادم، حيث تم إعلان هذا الأمر دونما أي إشارة ولو عابرة لحقوق ومصالح الدول المشاطئة للأنهار الدولية النابعة من إثيوبيا، وكأنها تمتلك حقوق ملكية حصرية لنهر النيل والأنهار الأخرى التي تتشارك فيها مع جيرانها، وهو الأمر الذى كان جلياً في الضرر الذى ألحقته إثيوبيا ببحيرة توركانا في كينيا.
السيد الرئيس،
بالرغم مما أبدته وتبديه إثيوبيا من سوء نية وإصرارها على اتباع سياسات أحادية الجانب، فقد استمرت مصر في التفاوض استناداً لحسن النية وتوافر إرادة سياسية جادة للتوصل إلى اتفاق عادل.
ولم تألو مصر جهداً على مدى عقد كامل في استشراف كل السبل واستنفاد كافة الفرص نحو التوصل إلى اتفاق يمكن أثيوبيا من ملء وتشغيل السد بالتوازى مع الحد من الآثار والتداعيات السلبية على دولتي المصب، وهو الاتفاق الذي من شـأنه أن يكون أداة للتعاون الإقليمي والتكامل ويدشن عهداً جديداً من التآخي بين الدول الثلاث.
لقد سعينا للتوصل لهذا الاتفاق على مدى سنوات من المفاوضات الثلاثية غير المجدية والتي نجحت إثيوبيا خلالها فى نسف كل جهودنا الرامية لإجراء دراسات مشتركة حول الآثار الاجتماعية والاقتصادية للسد وتقييم مضاره البيئية، إلا أنه ونتيجة لعرقلة إثيوبيا لكافة تلك المساعي فلم يعد لدينا دراسة علمية محايدة ومشتركة حول الآثار السلبية لهذا السد الضخم.
وقد قبلت مصر الدعوة للمشاركة في مفاوضات برعاية الولايات المتحدة الأمريكية والبنك الدولى، والتي انخرطت فيها إثيوبيا، بشكل كامل وبحرية مطلقة، والتي تم خلالها – وبعد اثنتي عشرة جولة من المفاوضات المضنية – بلورة اتفاق شامل حول ملء وتشغيل السد، وهو الاتفاق الذي وقعته مصر ورفضته اثيوبيا.
كذلك انخرطت مصر فى مفاوضات دعا إليها دولة رئيس وزراء جمهورية السودان الشقيقة، والتي على الرغم من التقدم الذى نجحت في احرازه، فقد قوضتها أيضاً إثيوبيا في النهاية بالإصرار على تعنتها.
كما شاركت مصر بفاعليه على مدى عام كامل منذ انعقاد الجلسة السابقة لمجلس الأمن حول هذه القضية في المفاوضات التي عقدت تحت رعاية الاتحاد الإفريقى.
وانخرطت مصر في تلك المفاوضات من منظور ساده التفاؤل والايمان بقدرة اشقائنا الافارقة على تسهيل التوصل لاتفاق حول السد. كما اجتهدنا من أجل تنفيذ المخرجات والتوجيهات الصادرة عن اجتماعات هيئة مكتب الاتحاد الإفريقي على مستوى القمة للتوصل لاتفاق قانونى ملزم حول ملء وتشغيل السد، ورحبنا بالانخراط البناء لشركائنا من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في هذا المسار.
وعلى الرغم من ذلك، وبعد مرور عام من المفاوضات المتعثرة ورغم كل المساعى الحميدة والجهود الدؤوبة لفخامة رئيس جنوب افريقيا سيريل رامافوزا، وفخامة رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية فيليكس تشيسيكيدى خلال رئاستهما للاتحاد الافريقى، فقد أخفق مسار المفاوضات الذي يقوده الاتحاد الافريقى في التوصل للاتفاق المنشود.
بل إن دولنا الثلاث لم تتمكن حتى من تنفيذ مهمة بسيطة تتمثل في صياغة مسودة أولية تتضمن رصداً لمواقف الدول الثلاث في المفاوضات، وتم استغراق العديد من الأسابيع في اجتماعات افتراضية غير مجدية وخلافات حول أمور هامشية تتعلق بالإجراءات.
وما يثير مزيداً من القلق هو أن إثيوبيا عمدت على أخراج المفاوضات التي يقودها الاتحاد الإفريقي عن مسارها، وسعت مراراً وتكراراً لتوجيه المفاوضات على نحو مغلوط
للتوصل لتفاهمات غير ملزمة تقتصر على قواعد ملء السد أو لتعيين نقاط اتصال لتبادل البيانات الفنية.
وعلى الرغم مما قد تبدو عليه تلك الأفكار من وجاهة ظاهرية لغير الخبراء؛ فإن حقيقة الأمر أنها في جوهرها تخالف توجيهات هيئة مكتب الاتحاد الإفريقي على مستوى القمة التي نصت وبجلاء على أنه يتعين على الدول الثلاث التوصل لاتفاق شامل على القواعد الحاكمة لعمليتي الملء والتشغيل لهذا السد.
والأهم من ذلك، أن الأثر الفعلي لهذه المقترحات الأثيوبية هى تجريد دولتي المصب من أي حماية مجدية ضد الآثار السلبية للسد، ومنح اثيوبيا حق مطلق لملء خزان السد وتشغيل توربيناته العملاقة دون الالتزام بأي قواعد أو إجراءات يكون من شأنها تخفيف التداعيات السلبية لهذا السد وتنظيم عملية تشغيله، وهو ما يشكل خطراً جسيماً على حقوقنا ومصالحنا الحيوية.
بالإضافة الى ما تقدم، وعلى الرغم مما تزعمه أثيوبيا من استعداد لتقبل دور أكبر لشركائنا الذين حضروا المفاوضات التي عقدت برعاية الاتحاد الافريقى كمراقبين، فإن حقيقة الأمر أن اثيوبيا رفضت خلال الاجتماع الوزاري الأخير الذى عقد في كينشاسا خلال الفترة من 4-6 ابريل 2021 بناء على دعوة كريمة من فخامة الرئيس فيليكس تشيسيكيدى، كل مقترح تقدمت به مصر والسودان بهدف تعزيز العملية التفاوضية التي يقودها الاتحاد الافريقى ومنح دور اكبر لشركائنا لمساعدتنا في التوصل لاتفاق حول السد.
وعليه، أجد أننى وللأسف مضطر لأن أخطر مجلس الأمن أن المسار التفاوضي الذي يقوده الاتحاد الإفريقى - في صيغته الحالية - قد وصل لطريق مسدود؛ فقد تم استنزاف عام كامل فى مفاوضات غير مثمرة، بينما استمرت اثيوبيا في بناء السد ووصلت الان إلى نقطة الاستمرار في ملء الخزان من جانب واحد.
السيد الرئيس،
لقد استمرت إثيوبيا في تبني موقفٍ متعنتٍ طوال هذا المسار الشاق والمعقد وفي مراحل المفاوضات كافة. كما رفضت كل المقترحات والأفكار التي قدمتها مصر، والتي كان من شأنها ضمان قدرة إثيوبيا على توليد الطاقة الكهرومائية بأعلى مستويات ومعدلات الكفاءة مع توفير الحماية لدولتي المصب من أخطار هذا السد.
كما أبت إثيوبيا الموافقة على أي حلول أو مقترحات توافقية قدمها شركاؤنا الدوليون، واستمرت في تبني مواقف صِيغت بغرض تفادي وتجنب تحملها لأي التزام لحماية حقوق مصر والسودان أو حتى توفير الحد الأدنى من الضمانات لهما.
وقد باءت كافة محاولاتنا لرأب الصدع وبناء الثقة بين دولنا بالفشل؛ فقد وقعنا على اتفاق إعلان المبادئ عام 2015 للتأكيد على التزامنا بالتوصل إلى اتفاق عادل ومنصف هذا الخصوص. كما قدمنا خطة لإنشاء صندوق مشترك لتمويل مشروعات البنية التحتية بهدف توسيع آفاق التعاون بين بلادنا، بل أننا اقترحنا المساهمة في تمويل هذا السد الإثيوبي بغية تحويل هذا المشروع إلى رمز للصداقة والأخوة بين شعوبنا، كما اقترحنا مد خطوط الكهرباء المصرية للمساهمة في إمداد إثيوبيا بالطاقة لدعمها في مسعاها لتحقيق التنمية.
ورغم كل ذلك، تظل إثيوبيا على تعنتها وصلفها.
ولذلك أضحت دولتا المصب أكثر عرضة الآن لمخاطر هذا السد، حيث انه لا يوجد لدينا أية ضمانات مؤكدة بشأن أمان هذا السد وسلامته الإنشائية، وهو ما يعد حكماً فرضته علينا إثيوبيا بأن يعيش أكثر من 150 مليون من السودانيين والمصريين تحت تهديد محدق نتيجة لهذا السد الضخم وبحيرته العملاقة التي ستخزن 74 مليار متر مكعب من المياه دون وجود ما يطمئننا اتصالاً بسلامة السد وأمانه.
كما لا توجد لدينا أي ضمانات ضد الأضرار التي لا يمكن حصرها التي قد تنجم عن ملء وتشغيل السد أثناء فترات الجفاف التي قد تقع مستقبلاً.
فعندما تأتي السنوات العجاف وينضب النهر ... وتتشقق الأرض تحت الشمس الحارقة ... وتتعرض حياة الملايين من المصريين للخطر ... تتعنت إثيوبيا وتصر على احتباس النهر ومنع تدفقه لتروي ظمئ دول وشعوب المصب.
وهنا يكمن لب المشكلة التي نواجهها اليوم.
إن كل ما طالبت به مصر وسعت إليه هو اتفاق ملزم يتضمن وسيلة للتأمين ضد الآثار الضارة هذا السد الإثيوبي على أمن مصر المائي، وقد سعينا لتحقيق ذلك من خلال وضع آلية تستطيع الدول الثلاث بموجبها التعاون سوياً لتحمل مسئولية التبعات التي قد تسببها فترات الجفاف في المستقبل.
وللأسف، فلا تزال إثيوبيا مصممة على رفض أي اتفاق يمكن أن يوفر وسيلة مجدية لحماية مصالح دول المصب.
ومن هذا المنطلق، السيد الرئيس، فإنه ليس من قبيل المبالغة أو التهويل أن أؤكد أن سد إثيوبيا يمثل تهديداً وجودياً حقيقياً لمصر؛ فدراساتنا العلمية تؤكد أن هذا السد العملاق قد يتسبب في أضرار لا تعد ولا تحصى بالنسبة لمصر. وعلى الرغم من كافة الإجراءات الوقائية التي اتخذناها تحسباً للملء الأحادي لهذا السد ورغم كافة جهودنا المضنية لحفظ مياهنا وإعادة تدوريها واستخدامها؛ فإن الضرر الذي قد ينتج عنه سوف يستشري كطاعون مزمن في شتى مناحي حياة الشعب المصري دونما استثناء.
ففي غياب اتفاق ينظم قواعد ملء وتشغيل السد، فإن هذا المشروع قد يؤدي إلى عجز متراكم للمياه بمصر يبلغ نحو 120 مليار متر مكعب، مما سيسهم بدوره في تقليل سبل الحصول على مياه الشرب النظيفة، ويحرم ملايين العاملين في قطاع الزراعة من المياه اللازمة لري أراضيهم، ومما سيؤثر سلباً على مستوى دخولهم ومعيشتهم، ويدمر آلاف الأفدنة من الأراضي الصالحة للزراعة، ويسهم في زيادة ظاهرة
التصحر وتدهور النظم البيئية في دول المصب، فضلاً عن زيادة فرص تعرضها للآثار السلبية ذات الصلة بتغير المناخ.
وهو الوضع الذي لا يمكنُ لمصرَ أن تتحمله، بل لن تتقبله أو تتسامح معه.
وبالتالي، فمن الأهمية بمكان أن يبذل المجتمع الدولي كل جهدٍ ممكن، بما في ذلك اتخاذ الإجراءات اللازمة من خلال مجلس الأمن، لاستباق هذه الاحتمالية ومنع تحول السد الإثيوبي إلى تهديد وجودي لمصر.
ويتطلب ذلك قيام المجلس بمطالبة الأطراف – وبشكل لا لبس فيه – للعمل على الوصول إلى اتفاق منصف، وفي إطار زمني محدد، وتشجيعها على العمل الصادق ودون مواربة لتحقيق هذا الهدف المنشود.
وإذا لم تتحقق هذا الغاية ... وإذا تضررت حقوق مصر المائية أو تعرض بقائها للخطر ... فلا يوجد أمام مصر بديل إلى أن تحمي وتصون حقها الأصيل في الحياة وفق ما تضمنه لها القوانين والأعراف السائدة بين الأمم ومقتضيات البقاء.
السيد الرئيس،
إن قيام مصر بطرح هذا الأمر، والذي له أهمية قصوى بالنسبة لها، أمام مجلس الأمن إنما يعد بمثابة شهادة على إيماننا الراسخ غير المتزعزع بمبادئ ميثاق الأمم المتحدة والواردة في ديباجته والتي تؤكد التزامنا المشترك "بممارسة التسامح والعيش معاً في سلام وحسن الجوار" وكذا "أن نوحد قوانا لصون السلم والأمن الدوليين".
وها نحن نأتي هنا بحثاً عن طريق مُجدي نحو حل سلمي وودي عن طريق التفاوض للأزمة التي أمامنا اليوم، ولدرء العواقب الوخيمة التي قد تنتج حال لم نستطع التوصل إلى تسوية لهذه القضية. إن أملنا أن يدرك مجلس الأمن مدى خطورة الموقف وأن يضطلع بمسئوليته لصون السلم والأمن الدوليين. ونتطلع لأن يتخذ هذا المجلس
الإجراءات اللازمة لضمان قيام الأطراف المعنية بالانخراط في مسار تفاوضي فعال يفضي إلى التوصل إلى اتفاق يخدم مصالحنا المشتركة.
وبالفعل، فإن شعب مصر – وشعوب المنطقة بأسرها – تتابع مداولات مجلس الأمن اليوم باهتمام شديد وآمال كبيرة، وينظرون إلى الأمم المتحدة، وإلى هذا المجلس، باعتبارهما ضامنين للسلام وحارسيْن على الإرادة المشتركة للإنسانية، وهم على ثقة في أنكم لن تخفقوا في أداء مهامكم في هذا الخصوص.
وبهذه الروح، أود أن أشدد على أهمية قيام مجلس الأمن، أثناء الاضطلاع بمهمته الأساسية لصون السلم والأمن الدوليين، الالتزام بالمادة الرابعة والعشرين لميثاق الأمم المتحدة، والتي تنص على ضرورة عمل أعضائ المجلس كممثلية لأعضاء الأمم المتحدة لتعزيز الأهداف السامية والنبيلة التي أنشئت من أجلها هذه المنظمة والتقيد بالمبادئ التي تقود وتلهم عملها. وعليه، فإننا نهيب بأعضاء هذا المجلس الموقرين أن ينظروا في هذه القضية الحيوية التي نحن بصددها اليوم، ليس من خلال منظور ضيق يرتبط بمصالحهم الوطنية، ولكن من منظور المسئولية الجماعية للتحرك بالنيابة عن المجتمع الدولى ككل لحفظ السلم ودعم مبادئ العدالة والإنصاف.
وبناء عليه، تطالب مصر مجلس الأمن بتبني مشروع القرار الخاص بمسألة سد النهضة الأثيوبي والتي تم تعميمها من قِبل جمهورية تونس الشقيقة.
وكما هو واضح من نص هذا المشروع، فإننا لا نتوقع قيام المجلس بصياغة حلول للمسائل القانونية والفنية العالقة، كما أننا لا نطالب المجلس بفرض تسوية ما على الأطراف بشأن هذا الخلاف.
بل على العكس؛ فإن هذا القرار سياسيٌ الطابع وهدفه متوازن وبناء ويتمثل في إعادة إطلاق المفاوضات وفقاً لصيغة معززة تحافظ على قيادة رئيس الاتحاد الإفريقي لعملية التفاوض وتدعمها، وتمكن شركائنا الدوليين، بما فيهم الأمم المتحدة، من
استغلال خبراتهم في هذا المجال من أجل مساعدة دولنا الثلاث في سعيها لإبرام اتفاق عادل وفق إطار زمني مناسب.
وإن كان ثمة شيء أكيد؛ فإن هذا القرار يهدف إلى تنفيذ وتفعيل مخرجات اجتماعيّ هيئة مكتب الاتحاد الإفريقي اللذين عُقدا حول هذا الموضوع، واللذيْن وجها الأطراف أن تنجز في أقرب وقت، وبمساعدة شركائنا الحاضرين لتلك المحادثات كمراقبين، صياغة اتفاق قانونى ملزم حول ملء وتشغيل سد النهضة الأثيوبي، كما ناشدت مخرجات تلك الاجتماعات الأطراف بعدم اتخاذ إجراءات أحادية يمكن لها أن تعرض العملية للخطر.
إن تبني هذا القرار من شأنه أن يؤكد مجدداً عزم مجلس الأمن على الاضطلاع بمسئوليته لحفظ السلم والأمن الدوليين، كما سيبعث رسالة واضحة مفادها أن المجلس سيظل ملتزماً بسلام ورخاء قارتنا الإفريقية. وفي المقابل؛ فإن الإخفاق في اتخاذ إجراء فعال إزاء مسألة السد الإثيوبي سيُعد تقصيراً مخيباً للآمال بشأن اضطلاع المجلس بمهامه ومسئولياته.
أخيراً، فإنني أؤكد لكم سيادة الرئيس ولأعضاء المجلس، أن مصر سوف تبذل كل جهد للتوصل إلى اتفاق يدعم رابطة الأخوة بين دولنا ووشائج القرابة بين الشعوب التي تعيش على ضفاف نهر النيل.
وأهيب بزملائي، وأشقائي، وشقيقاتي في السودان وإثيوبيا لاغتنام هذه الروح ومضاعفة جهودنا من أجل ضمان مستقبل من السلام والرخاء لبلادنا وشعوبنا.