د.وفاء كمالو تكتب عن دراما رمضان.. السقوط الوقح لمفاهيم الفن والجمال
رغم الحضور العبقري العظيم لأعمال درامية رفيعة المستوى، مثل الاختيار 2، هجمة مرتدة، القاهرة كابول، نجيب زاهي زركش، إلا أن التيار العارم من الأعمال السفيهة يواجهنا باندفاع غير مسبوق إلى ردة فنية وفكرية مفزعة، تعلن بوضوح سافر عن موت الوعي والمعنى والفكر والجمال، تتبنى الزيف والتغييب والاستلاب، تصادر النبض وإيقاعات الحياة، وتغني للدم والموت والدمار، فقد خلع حلفاء الشيطان كل الأقنعة ليعلنوا أن الإنسان قد مات، لذلك علينا أن ننتبه، ونواجه طوفان الخطايا والآثام وندرك طبيعة دور الفن والثقافة في هذه اللحظات الخطرة الفارقة، فلعلنا نتجاوز أزمات غياب العقل النقدي، لتأتي التجارب الفنية على مستوى المشهد الوجودي المتوتر وتصبح قضايانا الحقيقية في قلب المشهد، بحثًا عن الضوء والوعي والإدراك.
نحن أمام تساؤلات تفرض نفسها، فهل أصبحت البلطجة هي الإطار المرجعي للفن؟ وهل تكرس الدراما الآن لسقوط كل منظومات القيم الإنسانية، لتصعيد قيم جديدة تنتمي إلى الإرهاب الأخلاقي والعنف والبذاءة والبلطجة، لتزرعها في أعماق البسطاء، وكل المعذبين بالفقر والجهل والقهر والغياب؟ فالأعمال الفنية في هذا العام تأتي كخيانة صريحة للدراما التليفزيونية، تجاوزت كل الخطوط الحمراء، استباحت العقول والعيون والوعي والإدراك، التجارب معظمها شديدة التواضع، لا تمتلك شرعية الانتماء للفن، تفتقد الروح والوهج، وتغييب عنها الأصول المبدئية للدراما وقيم الجمال، وحرارة التواصل وفلسفة الطرح، وسيكولوجية الجمهور، الجمهور الذي يغرق ببساطة في تيارات الزيف والتغييب والخلط والعشوائية، لنعيش ذلك التصعيد المستفز للخسائر الفنية والفكرية والثقافية الفاضحة، لا شييء سوى الإسفاف والركاكة، وإهدار الحس والذوق والاستهانة بقضايا الواقع وعقول الناس. في قراءة مبدئية لمؤشرات أكثر المسلسلات الدرامية جذبا للجمهور، وتحقيقًا للترند، يتصدر مسلسل "ملوك الجدعنة" محركات البحث، يعرض على فضائية mbc، التأليف عبارة عن ورشة كتابة فنية تحت إشراف الكاتبة عبير سلطان، الإخراج لأحمد خالد موسى، والبطولة لمصطفى شعبان، عمرو سعد، عمرو عبد الجليل، ياسمين رئيس، رانيا يوسف، دلال عبد العزيز، وغيرهم، بالإضافة إلى وجود مجموعة كبيرة من النجوم اللامعة تشارك كضيوف شرف في هذه التجربة، وغالبا ما تنتهي الحلقة بقتلهم أو حرقهم، ويذكر أن الحلقات حتى الآن عاجزة تمامًا عن التصاعد، تدور في نقطة ثابتة تمتد أفقيًا لتستعرض ببراعة وقائع العنف والبلطجة واستخدام الأسلحة الحية والبيضاء، وهي تدور حول عذابات صديقين من اللصوص الفقراء، قررا مواجهة اللص البلطجي الثري الكبير، حتى يصعدا إلى القمة. تبدو خطورة هذه التجربة أكثر مما نتصور، حيث تتسلل تفاصيلها الوقحة المبتذلة بقوة خارقة إلى أعماق الشباب، الحوارات الساقطة تخترق العقول، ولغة الكوميديا الفاضحة تبعث تيارات الجذب للبسطاء والمراهقين، فهل سنتوقف قريبًا ونلوم الشباب الذين توحدوا مع شخصية "سفينة " وصديقه؟ هل سنسأل لماذا أصبح الشارع المصري عنيفًا مختلًا ومخيفًا؟، وهل أصبح ملوك الجدعنة هم ملوك البلطجة؟ وهل أصبحت الجدعنة هي تدخين الحشيش والبانجو، وفتح الصدر علي الآخر، واستعمال الترامادول لعمل دماغ ثقيلة؟ إنه اللعب الخطير على مشاعر المراهقين، فهذه التجربة التى أنتجتها ورشة التأليف هي تكريس لقيم مغايرة، وترسيخ لمفاهيم إجرامية شاذة، يتم تسريبها بهدوء، باعتبار أن هذه الرؤى هي التجسيد الأمثل للرجولة والجدعنة، لذلك علينا أن ننتبه، حتى لا ندمر المستقبل ونشارك في صياغة أجيال فاسدة ترقص وتغنى على أغنية ملوك الجدعنة الشهيرة "احنا دولة جوة دولة ومحدش أدنا". تغيب كل ملامح البناء الدرامي في هذا المسلسل، ويظل الحوار يمتد أفقيًا ليرسم بانوراما من التفاصيل الغزيرة، التي تبدو مقلقة حيث تشتبك مع العديد من القضايا الاجتماعية الخطرة، ولكن سرعان ما يتم إفراغها من محتواها، لتتحول إلى شكل كاريكاتورى شديد الابتذال والسخف، يضعنا في مواجهة ساخنة مع أبشع ملامح الانحطاط، حيث نشاهد ذلك الشاب الذي يدفع فتاة إلى داخل المحل ويغلقه، فتقول له في دلال أنا بنت بنوت، فيرد بشكل هستيري فاضح يستحيل تصوره، أما الولد الصغير الذي لا يزيد عمره عن عشر سنوات فنراه يشم الهيروين عادي جدًا، ثم يقطع شرايينه ويقول لأمه إنت بتاعة رجالة، وتأتي الفتاة الشابة لتدخل شقة البطل تسأله عن النسوان اللى مخبيها ثم تطلب منه أن يأتي بسرعة ليتحرش بها، وهكذا تظل الحارة الشعبية التي تدور فيها الأحداث نموذجًا للإجرام والإسفاف والركاكة والانحطاط، بينما تثير الكميات الهائلة من السلاح – تثير فيضًا من التساؤلات. تثير المؤشرات المبدئية لمسلسل "نسل الأغراب"، أحد أضخم أعمال رمضان، للمؤلف والمخرج محمد سامي، وبطولة النجوم أحمد السقا وأمير كرارة ومي عمر، ومجموعة كبيرة من الممثلين، تثير ردود فعل عارمة حول طبيعة الأداء التمثيلي في هذه التجربة، التي تمثل ردة مخيفة تستعصى على جماليات التمثيل، تكاد تشتبك مع البدايات الأولى للتراجيديا الإغريقية في زمن استخدام الأقنعة والأبواق، فقد تحولت وجوه الأبطال إلى أقنعة شرسة عن طريق المكياج والشعر ونظرات العيون، وكانت أصواتهم مفزعة خالية من الاتساق، وإذا كان المخرج محمد سامي يفكر دائمًا خارج الصندوق متجاوزًا حدود المنطق، ليثير إعجاب الجمهور، فإنه قد طرح أحد قضايا الثأر في الصعيد، وتفجرت أحداثها عبر اعتراف بطلة العمل السيدة الثرية الجميلة صاحبة الأصل العريق، أن قلبها مقسوم بين طليقها وزوجها، ذهبت لتلتقي بعساف الغريب، الذي خرج من السجن بعد عشرين عامًا، أخبرت ابنيها الشابين أنها لا تحتمل فراقه فشعرا بالخزي والعار، لكنها ظلت تتحدث عن الحب الأول في حياة المرأة، وطبيعة مشاعرها التي لن يدركها الرجال، وإذا كان المسلسل يفرض أن نتوقف أمامه نقديًا بعد أن تتضح أبعاده، فإن الأداء التمثيلي للنجوم بشكل عام قد اتجه إلى وحشية مفرطة، وكان العنف والدم والسلاح، هم الأكثر حضورًا في قلب الحلقات المتوالية، ويذكر أن الحدود الفاصلة بين جماليات الأداء المنضبط، وعشوائية الأداء المنفلت، قد غابت تمامًا عبر الاندفاع المخيف إلى حالات هستيرية عنيفة، حيث جنون الصوت المرتفع، ردود الأفعال المفزعة، انفعالات الوجه القاسية، التي تستلب شكل الملامح الطبيعية، العيون الجاحظة والنظرات النارية، وتسابق النجوم في مسلسل نسل الأغراب في إرساء قواعد البلطجة الجسدية والصوتية، لتذهب الهارمونية وقواعد الأداء، وأصول التمثيل إلى الجحيم، وتتفتح المسارات أمام كل فريق العمل للاندفاع نحو هذه الهاوية الخطرة. إذا كانت الدراما هي فعل ثقافي في المقام الأول، فإنها تثير التساؤلات حول المسئولية الفنية في بعدها الاجتماعي، باعتبارها مسئولية تقع بين الفرد والدولة، تشتبك مع القيم والقيم المضادة والقدوة، ومفهوم البطل في الوعي الجمعي، لذلك فإن الفن الإنساني والثقافة الرحبة هما السبيل الوحيد، للخلاص من ضيق الأفق وغياب الوعي والانتماء، ومن المؤكد أننا في أشد الحاجة إلى تجديد السياق الثقافي واستعادة العقل النقدي العربي، بعد أن غاب عن المشاركة غيابًا طويلًا أسهم في تراجعنا العلمي والفني والمعرفي إلى حد كبير. وأيضًا..https://www.facebook.com/anahwa2019