د. طارق حجي يكتب: من المتهم ؟
ومنذ سنواتٍ قررتُ ألَّا أُبقي هذا السؤال فى عالمِ "الفكرة والفكرة المضادة".
وكانت البدايةُ هى حوار مع شخصٍ مصريّ قال لي : مررتُ بثلاثِ مراحلٍ ، فى الأولى كنت مثل معظم المصريين المسلمين المؤمنين ، وفى الثانيةِ وتأثراً بإمامِ جامعٍ كنت أُصلي فيه أيام الجمعة أصبحت متشدداً جداً ، وفى الثالثة وكنتيجة لقراءاتٍ وحواراتٍ عديدة أدرتُ ظهري للمرحلةِ الثانية كليةً.
وأضاف محدثي ، عندما أُراجع شخصيتي وأفكاري وأفعالي وردود أفعالي خلال المرحلةِ الثانية فإنني أتعجب من حجمِ العنف الذى كانت تتسم به شخصيتي وأفكاري. وهو عنف لم يكن من سماتِ شخصيتي قبل دخولي المرحلة الثانية. وختم كلامَه بقولِه : والأغرب ، أَنني بعد أن تخليت عن أفكاري أثناء المرحلة الثانية صرتُ مذهولاً مما إعتراني خلال سني تلك المرحلة من عنفٍ كليّ (أيّ عنف فكّري ولفظي وفعليّ).
كان هذا الصديقُ وما حكاه لي عن تجربته هو ما حضني على أن أطلب مساعدته هو وغيره لمقابلة أشخاص مسلمين مصريين وغير مصريين مروا بتجربة الإنتماء للفكر الإسلامي المتشدد ثم تركوه.
وبالفعل ، إلتقيت فى مِصْرَ و بريطانيا بقرابة ثلاثين شخصاً مروا بتجربة صديقي وهى : إعتدال / تشدد / تحرر وإعتدال.
وحدثت هذه اللقاءات خلال السنوات من 2011 الى 2020.
وأُجزمُ أنني سمعتُ من كلِ واحدٍ منهم أنه بعد تحررِه من ربقةِ الأفكار المتشددة كان مذهولاً من العنف الذى إتسم به إبان مرحلةِ التشدد : عنف بالغ وإقصائي على مستوى التفكير والسلوك والأفعال والمواقف وردود الأفعال. كما تحدث معي كلٌ منهم عن إندهاشِه من تخليه عن هذا العنف مع إبتعاده عن أفكارِ المرحلة الثانية.
وأكثر من نصفِ هؤلاء الثلاثين كرر لي هذه الكلمات : كانت أفكارنا أثناء سنوات التشدد تأخذنا لمشاعرٍ لم تخطر لنا قبلها ببالٍ مثل كراهية الوالدين أو أحدهما أو بعض الإخوة والأخوات عندما عارض هؤلاء الأفكار التى تبنيناها أثناء مرحلة التشدد.
وكثيرٌ منهم قال لي : لماذا تندهش من القسوةِ والعنفِ والإقصاءِ الذين كانوا أبرز معالم عقليتنا وسلوكنا وآراءنا وأحكامنا أثناء سنوات التشدد ونحن كنا نسمع من الشيوخِ والدعاةِ إسم إبن تيمية كل يوم وهو من قرأنا فى فتاواه تعبير "يُستتاب ، فإن لم يتب يُقتل" بخصوص أكثر من مائةِ حالة ؟!
ولإكمال الصورة ، فإن ثلثي الذين تحدثت معهم تَرَكوا مرحلة التشدد وعادوا كما كانوا قبلها. والثلث الآخر أصبح لا-ديني كليةً.
وبسبب البُعد الأكاديمي فى حياتي ، فأنا أعلمُ أن ما ذكرتُه أعلاه قد يوصف بأنه عينةٌ عشوائيةٌ غير ذات دلالة قاطعة. أعلمُ ذلك يقيناً. ولكنني كتبتُ ما كتبت للحض على أخذ مؤسسة بحثية لهذه التجربة كسبب لإجراء تجربة أرحب وعلى أشخاص يمثلون الواقعَ بدرجةٍ أكبر.
ولا يمنعني ذلك من تقرير أنني بعد هذه التجربة وبعد نصف قرن من دراسةِ ظاهرةِ التشددِ والأصولية (Radicalism) عند كثيرٍ من المسلمين متيقنٌ أن العنفَ والقسوةَ هما من ثمارِ الفكرة وليسا من طبيعة (جبلة) المؤمنين بها.
وأذكرُ أن ثلاثة من الثلاثين الذين أشرتُ لهم أعلاه قالوا لي (منفردين) : لو كان العنفُ مصدره الشخص وليس الفكرة ، فلماذا لم نر مصرياً قبطياً واحداً يقترف أي عملٍ إرهابي ، ونحن هنا نتحدث عن قرابة 15 مليون من المصريين المسيحيين ؟!
ومعنى هذا الملاحظة أن مسيحي مصرَ والذين يفوق عددهم تعداد مواطني الكويت وقطر والبحرين ودولة الإمارات وسلطنة عُمان لم يخرج من بينهم إرهابيٌ واحدٌ.
وفى أيّ مجتمع عصريّ يسود فيه التفكيرُ العلمي فإن إجراءَ مثل هذه الدراسة هو أمرٌ حتمي. وإذا جاءت النتيجةُ مضاهيةً لما وصلتُ له أنا من خلال تجربتي الثلاثينية ، فإن سياسات جديدة للتعليم وللخطاب الديني يجب أن توضع وتنفذ. وهى سياسات على الدولة القيام بها بعيداً عن الجهات الذائع كونها جزءاً من المشكلة.
ورغم أنني كتبتُ هذا المقال المقتضب عن مصريين قابلتهم وحاورتهم ، فأنا على يقينٍ من إنطباق ما ذكرتُ على كل أو جل المجتمعات الناطقة بالعربية.
وايضا.. محمد الغيطي يكتب.. «في ذكرى رحيل العبقري جمال حمدان.. من قتله وأسرار من حياته»
وايضا..https://www.facebook.com/anahwa2019