سوزان التميمي تكتب: تاء مضمومة (القاهرة 30/ كلاكيت 2020)
سوزان
هناك علاقة وثيقة وارتباط بين النص الأدبي والحياة التي نعيشها بمواقفها ومن نصادفهم من شخوصها.. روابط تجعل الواقع يتحرك نحو النص.. والنص يتماس مع شخصيات ومواقف نلتقيها، ويستمد النص من الواقع ما يجعله أكثر إقناعا، ويتأثر الواقع بالنص ما يجعله وثيقاً به فيما عدا افتقاره لجمالياته الأدبية التي كانت تضعنا في دور محايد كقراء.. فحين تكون واقعا مُعاشا لا نستطيع وقتها استقباله بشكل فيه انفصال وعدم انفعال بأحداثه ومجرياته، فالأشخاص الذين نلتقيهم فى النص والأحداث التي نعايشها يستمدان معيارية منطقهما من تلك الصور الذهنية المختزنة من خبراتٍ عايشناها، هنا يقف المتلقي إزاء الشخصية الروائية موقفا من موقفين:
أولهما إسناد ملامح الشخصية الروائية على شخصية لها حضورها الواقعي بالنسبة له، مما يكون فيه نوع من أنواع الإسقاط النفسي وهو حيلة دفاعية من الحيل النفسية اللاشعورية، وقد تتضمن عملية هجوم يحمي الفرد بها نفسه بإلصاق عيوبه ونقائصه ورغباته المحرمة أو المستهجنة بالآخرين متمثلين في شخصياتٍ درامية لعمل أدبي أو فني.
وثانيهما الاجتهاد لتخليق ملامح مغايرة لتلك الشخصية كادعاء التبريرات الواهية أو خداع الذات باسم الأعذار وبالتالي محاولة تصدير الصورة المهترئة للفضيلة كي يُقنع بها الآخرين.. أو الضعف لاستدرار العطف.. متصوراً تماسها مع الملامح أو الخواص المُتعارف عليها خارج النص بإيحاء الفعل أو مردود الإسم كصفة أو ما شابه.. لوصم أحد الشخصيات بما فيه هو شخصياً مستغلا الصورة الذهنية للمتلقي. ومن هنا نجد وبعد مرور كل هذه العقود تشابهاً كبيرا بين ما يُكتب وما يُعاش.. ونجد هذا التكرار المشوه بين (القاهرة 30) كعمل فني مأخوذ عن رواية الكاتب الكبير نجيب محفوظ (القاهرة الجديدة) وبين واقع وشخصيات في (القاهرة 2020). نجد أننا أمام خمس شخصيات محورية رسمهم المخرج العبقري صلاح أبو سيف في الفيلم الذي عُرض لأول مرة عام 1966.. ورغم مرور أكثر من 50 عاما على عرض الفيلم وقد حصل على المركز الثامن عشر ضمن قائمة أفضل 100 فيلم فى تاريخ السينما المصرية إلا أن دراما النص تصلح للتطبيق على العديد من المواقف ويُعد ترجمة حية لما نراه من تناقض فج بين القيم والمثالية والسعي للعدالة متمثلة في شخصية "علي طه" أحد أبطال العمل وبين انتهازية وتسلق "محجوب عبد الدايم" الذي دفعه فقره المدقع للانصياع للمفسدين الحقيقيين - من وجهة نظري- والذين يستغلون نفوذهم للحصول على كل الملذات من مال وسلطة وحتى العلاقات الغير مؤطرة إجتماعيا والمستهجنة أخلاقيا مثل صاحب المعالي "قاسم بيه فهمى" و ذراعه القذرة التي يستخدمها كي لا يظهر دوما في الصورة الواضحة له ويطرح المساومات الشاذة بدلا عنه ويبطش به إن أراد.. وهي شخصية "سالم الإخشيدى".. أما عن "إحسان شحاتة" فهي المستباحة والتي قبلت أن تكون سلعة تُباع وتُشترى، أعتقد أن كاتبنا الكبير قد جعل الأحداث والدراما تثير تعاطف المتلقي مع وضعها حيث أنه جعل ضغط الظروف والفقر وخذلان طموحاتها إجتماعيا وعاطفيا هي الملابسات التي جعلتها ترضخ مرغمة لفكرة البيع للمبادئ والاعتماد على أنوثتها للحصول على مآربها.. لكنه لو تغيرت حولها الظروف فجعلها من أسرة تجد حد الكفاف مثلا ولن أقول ميسورة.. لما تعاطف معها أحد قيد أنملة.. كانت ستصبح من الدنائة أنها قبلت العرض نهماً في مزيد من تحسن الوضع المادي أو للحصول على مطامع ما أو للحصول على مكانةٍ اجتماعية لا تستحقها.
لولا وجود النماذج الخمس كشخصيات واقعية من لحم ودم لما كتبهم كاتبنا الكبير نجيب محفوظ، ومع اختلاف الزمن نجدها تتكرر ومن ثم فلولا (المُشتري) الطامع لما باع (البائع) الغالي بثمنٍ بخس.. ولولا الأطماع لما سقط ضعاف النفوس.. لولا سلطة ومال "قاسم فهمي" لما سقطت "إحسان" واستغل "المحجوبيون" الموقف ليركبوا على موجات الضعف الإنساني والسعي وراء المناصب والقفز على الكراسي.. فإذا أسقط نفسياً كل "محجوب عبد الدايم" ما فيه على الآخرين.. فكم من "إحسان شحاتة" قبلت التشيؤ لتكون سلعة معروضة لهدفٍ ما متعللة بالظروف والضغوط. كما أنه من الصعب نسيان التركيبة المختلفة التى قدمها المخرج العبقرى صلاح أبو سيف للشخصيات، وقدرته على خلق أجواء تصويرية تترجم الحالة الإنسانية المتناسبة مع التركيبة النفسية لشخوصه الدرامية.. لتصبح شخصيات هذا العمل نماذج حياتية تتكرر حتى يومنا هذا، ونستطيع أن نؤكد على ملمح في ثنايا الرواية وفي خاتمتها وهو الميل الطبيعي والمنطقي للمؤلف الذي يصوِّر العدالة بأن ينتصر للمبادئ على كل حال ففي مشهد افتضاح سر الدوائر المشبوهة وكشفهم على مرأى ومسمع من الجميع، وأن يحقّر من التدهور الخلقي والاجتماعي، والتسلق، والانحلال.. ولكنه لم يلقِ بخطبة منبرية واحدة.. لم يقل افعل ولا تفعل.. لكنه أيضا لم يتبنَ الفكرة المطلقة للعدل وجلاء الحقائق للأبد فنجد الكاتب يقول فيما معناه"...أن مجتمعنا يستطيع أن يهضم هذا المسؤول وأمثاله إذا أسعفه شيء من النسيان.. وسوف يقبع عاما أو عامين أو أكثر في النادي، عسى أن تخرجه غدا المتغيرات عن عزلته وتحمله كالأبطال إلى أي منصبٍ آخر، فيعيد سيرته الأولى، أو يلعب دورا جديدا"، أعتقد أن نجيب محفوظ قد تعمد أن يُقدم من خلاله فكرة الرواية استدامة فساد البيه والإخشيدي وأبو إحسان.. فحتى لو انكشفت مخالفاتهم وانكسروا مؤقتا إلا أن فسادهم يحمل خواص الطاقة المتجددة التي لا تفنى.. فماذا لو عاش نجيب محفوظ بيننا اليوم ورأى شخوصه وقد تطورت وواكبت العصر فأصبح الأذى والفساد مجاني وغير مُبرر.. ويطالعنا كل يوم مئات (المحجوبيون) على مواقع التواصل لينادوا بالفضائل التي يسمعون عنها.
⇧
هناك علاقة وثيقة وارتباط بين النص الأدبي والحياة التي نعيشها بمواقفها ومن نصادفهم من شخوصها.. روابط تجعل الواقع يتحرك نحو النص.. والنص يتماس مع شخصيات ومواقف نلتقيها، ويستمد النص من الواقع ما يجعله أكثر إقناعا، ويتأثر الواقع بالنص ما يجعله وثيقاً به فيما عدا افتقاره لجمالياته الأدبية التي كانت تضعنا في دور محايد كقراء.. فحين تكون واقعا مُعاشا لا نستطيع وقتها استقباله بشكل فيه انفصال وعدم انفعال بأحداثه ومجرياته، فالأشخاص الذين نلتقيهم فى النص والأحداث التي نعايشها يستمدان معيارية منطقهما من تلك الصور الذهنية المختزنة من خبراتٍ عايشناها، هنا يقف المتلقي إزاء الشخصية الروائية موقفا من موقفين:
أولهما إسناد ملامح الشخصية الروائية على شخصية لها حضورها الواقعي بالنسبة له، مما يكون فيه نوع من أنواع الإسقاط النفسي وهو حيلة دفاعية من الحيل النفسية اللاشعورية، وقد تتضمن عملية هجوم يحمي الفرد بها نفسه بإلصاق عيوبه ونقائصه ورغباته المحرمة أو المستهجنة بالآخرين متمثلين في شخصياتٍ درامية لعمل أدبي أو فني.
وثانيهما الاجتهاد لتخليق ملامح مغايرة لتلك الشخصية كادعاء التبريرات الواهية أو خداع الذات باسم الأعذار وبالتالي محاولة تصدير الصورة المهترئة للفضيلة كي يُقنع بها الآخرين.. أو الضعف لاستدرار العطف.. متصوراً تماسها مع الملامح أو الخواص المُتعارف عليها خارج النص بإيحاء الفعل أو مردود الإسم كصفة أو ما شابه.. لوصم أحد الشخصيات بما فيه هو شخصياً مستغلا الصورة الذهنية للمتلقي. ومن هنا نجد وبعد مرور كل هذه العقود تشابهاً كبيرا بين ما يُكتب وما يُعاش.. ونجد هذا التكرار المشوه بين (القاهرة 30) كعمل فني مأخوذ عن رواية الكاتب الكبير نجيب محفوظ (القاهرة الجديدة) وبين واقع وشخصيات في (القاهرة 2020). نجد أننا أمام خمس شخصيات محورية رسمهم المخرج العبقري صلاح أبو سيف في الفيلم الذي عُرض لأول مرة عام 1966.. ورغم مرور أكثر من 50 عاما على عرض الفيلم وقد حصل على المركز الثامن عشر ضمن قائمة أفضل 100 فيلم فى تاريخ السينما المصرية إلا أن دراما النص تصلح للتطبيق على العديد من المواقف ويُعد ترجمة حية لما نراه من تناقض فج بين القيم والمثالية والسعي للعدالة متمثلة في شخصية "علي طه" أحد أبطال العمل وبين انتهازية وتسلق "محجوب عبد الدايم" الذي دفعه فقره المدقع للانصياع للمفسدين الحقيقيين - من وجهة نظري- والذين يستغلون نفوذهم للحصول على كل الملذات من مال وسلطة وحتى العلاقات الغير مؤطرة إجتماعيا والمستهجنة أخلاقيا مثل صاحب المعالي "قاسم بيه فهمى" و ذراعه القذرة التي يستخدمها كي لا يظهر دوما في الصورة الواضحة له ويطرح المساومات الشاذة بدلا عنه ويبطش به إن أراد.. وهي شخصية "سالم الإخشيدى".. أما عن "إحسان شحاتة" فهي المستباحة والتي قبلت أن تكون سلعة تُباع وتُشترى، أعتقد أن كاتبنا الكبير قد جعل الأحداث والدراما تثير تعاطف المتلقي مع وضعها حيث أنه جعل ضغط الظروف والفقر وخذلان طموحاتها إجتماعيا وعاطفيا هي الملابسات التي جعلتها ترضخ مرغمة لفكرة البيع للمبادئ والاعتماد على أنوثتها للحصول على مآربها.. لكنه لو تغيرت حولها الظروف فجعلها من أسرة تجد حد الكفاف مثلا ولن أقول ميسورة.. لما تعاطف معها أحد قيد أنملة.. كانت ستصبح من الدنائة أنها قبلت العرض نهماً في مزيد من تحسن الوضع المادي أو للحصول على مطامع ما أو للحصول على مكانةٍ اجتماعية لا تستحقها.
لولا وجود النماذج الخمس كشخصيات واقعية من لحم ودم لما كتبهم كاتبنا الكبير نجيب محفوظ، ومع اختلاف الزمن نجدها تتكرر ومن ثم فلولا (المُشتري) الطامع لما باع (البائع) الغالي بثمنٍ بخس.. ولولا الأطماع لما سقط ضعاف النفوس.. لولا سلطة ومال "قاسم فهمي" لما سقطت "إحسان" واستغل "المحجوبيون" الموقف ليركبوا على موجات الضعف الإنساني والسعي وراء المناصب والقفز على الكراسي.. فإذا أسقط نفسياً كل "محجوب عبد الدايم" ما فيه على الآخرين.. فكم من "إحسان شحاتة" قبلت التشيؤ لتكون سلعة معروضة لهدفٍ ما متعللة بالظروف والضغوط. كما أنه من الصعب نسيان التركيبة المختلفة التى قدمها المخرج العبقرى صلاح أبو سيف للشخصيات، وقدرته على خلق أجواء تصويرية تترجم الحالة الإنسانية المتناسبة مع التركيبة النفسية لشخوصه الدرامية.. لتصبح شخصيات هذا العمل نماذج حياتية تتكرر حتى يومنا هذا، ونستطيع أن نؤكد على ملمح في ثنايا الرواية وفي خاتمتها وهو الميل الطبيعي والمنطقي للمؤلف الذي يصوِّر العدالة بأن ينتصر للمبادئ على كل حال ففي مشهد افتضاح سر الدوائر المشبوهة وكشفهم على مرأى ومسمع من الجميع، وأن يحقّر من التدهور الخلقي والاجتماعي، والتسلق، والانحلال.. ولكنه لم يلقِ بخطبة منبرية واحدة.. لم يقل افعل ولا تفعل.. لكنه أيضا لم يتبنَ الفكرة المطلقة للعدل وجلاء الحقائق للأبد فنجد الكاتب يقول فيما معناه"...أن مجتمعنا يستطيع أن يهضم هذا المسؤول وأمثاله إذا أسعفه شيء من النسيان.. وسوف يقبع عاما أو عامين أو أكثر في النادي، عسى أن تخرجه غدا المتغيرات عن عزلته وتحمله كالأبطال إلى أي منصبٍ آخر، فيعيد سيرته الأولى، أو يلعب دورا جديدا"، أعتقد أن نجيب محفوظ قد تعمد أن يُقدم من خلاله فكرة الرواية استدامة فساد البيه والإخشيدي وأبو إحسان.. فحتى لو انكشفت مخالفاتهم وانكسروا مؤقتا إلا أن فسادهم يحمل خواص الطاقة المتجددة التي لا تفنى.. فماذا لو عاش نجيب محفوظ بيننا اليوم ورأى شخوصه وقد تطورت وواكبت العصر فأصبح الأذى والفساد مجاني وغير مُبرر.. ويطالعنا كل يوم مئات (المحجوبيون) على مواقع التواصل لينادوا بالفضائل التي يسمعون عنها.