السيناريست عماد النشار يكتب: الصَّمْتُ دِرْعُ النَّجَاحِ.. احْفَظْ سِرَّكَ تَبْلُغْ مُرَادَكَ


قبل أن ينطق بالحقيقة، لمح ظلالهم تقترب، أعينهم تتوهج كجمرٍ تحت الرماد، وآذانهم مشرعة لالتقاط كلماته. لكنه، في اللحظة الأخيرة، تراجع، ابتلع سره كما يبتلع البحر السفن الغارقة، واكتفى بابتسامةٍ غامضة.
بعدها بأيام، نجح فيما فشل فيه الآخرون. وحده من أدرك أن الصمت ليس غيابًا للكلام، بل حصنٌ يحمي الأحلام من طعنات الحسد والمكائد.
في عالمٍ يموج بالعيون المتربصة والآذان المصغية، يصبح الكتمان فنًا لا يُتقنه إلا الحكماء.
فكم من حلمٍ وُئِد قبل أن يُولد، وكم من نجاحٍ تعثر قبل أن يخطو أولى خطواته، فقط لأن صاحبه أفشاه في غير موضعه! يُقال: "لا أحد يستطيع أن ينصب لك الكمائن إلا من يعرف تحركاتك جيدًا، لا تخبر أحدًا بما تفكر به لتصل بسلام." إنها حقيقة عميقة تُذكّرنا بأن الخطر لا يأتي دائمًا من البعيد، بل من القريب الذي يعرف نقاط ضعفك ويدرك كيف يضع العثرات في طريقك.
ليلةً ما، جلس يوسف الصغير أمام أبيه، يشعّ في عينيه بريق حلمٍ لم يره سواه.
حكى بحماسةٍ عن الشمس والقمر وأحد عشر كوكبًا، ولم يكن يعلم أن عين الحسد تسبق اليد في البطش، وأن القلوب قد تضمر من الظلام ما لا يُرى على الوجوه.
حين قصّ رؤياه، لم يكن يدرك أن بئرًا في الصحراء ستصبح أولى محطاته نحو المجد. فلو أنه صمت، هل كان ليواجه كل هذا العناء؟
هنا تأتي الحكمة الإلهية، حين قال نبي الله يعقوب: ﴿يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا﴾ (يوسف: 5). إخوة يوسف لم يكونوا غرباء، بل من لحمه ودمه، ومع ذلك، كان أول من كاد له أقرب الناس إليه. فالحسد لا يعرف حدود القرابة، ولا تمنعه صلة الدم، بل قد يكون الأقربون أشد حسدًا لأنهم الأقرب إلى رؤية نجاحك.
النجاح، وإن كان نعمة، قد يتحول في عيون البعض إلى نقمة. ولهذا جاء التحذير المنسوب للنبي ﷺ: 'استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود.'" ليس كل حسد مقصودًا، لكنه كالريح، قد لا تراه، لكنه قادرٌ على أن يقتلعك من مكانك إن لم تحتمِ جيدًا.
ابن الجوزي اختصر الحكمة كلها حين قال: "اكتم عن الناس ذهبك وذهابك ومذهبك." أي لا تخبرهم عن مالك، ولا عن وجهتك، ولا عن أفكارك.
فهذه الثلاثة هي مفاتيح الاستقرار، ومن أذاعها عرّض نفسه للغدر أو الفقدان.
في عالمٍ يعجّ بالمتحدثين، يصبح الصامتون فئةً نادرة. ليس لأنهم لا يملكون ما يقولونه، بل لأنهم يعرفون متى يكون للكلام ثمن.
الصمت، كدرع فارسٍ خاض معركة، يحمله ليحميه لا ليخفيه، ويضعه لا خشيةً من العدو، بل درءًا لسيوفه التي قد تأتي من أقرب الناس إليه.
في النهاية، الحياة ليست سباقًا يكسبه من يتحدث أكثر، بل من يخطو بصمت ويفاجئ الجميع حين يصل أولًا. فالأسد لا يعلن عن زئيره قبل أن ينقضّ، والموج لا يخبر أحدًا متى سيضرب الشاطئ، وحدها الأفعال تتحدث حين يحين وقتها.
فإذا أردت أن تبلغ مرادك، اجعل سرك طي الكتمان، ودع نجاحك يتحدث عنك دون أن تنطق بكلمة.