السيناريست عماد النشار يكتب: قَلْبُ الأُرَاجُوزِ
![أنا حوا](https://www.anahwa.com/img/25/02/11/371317.jpg)
![](https://www.anahwa.com/ix/GfX/logo.png)
في زمن غابت فيه أصداء المدينة، كانت القرية تقف بثبات بين أحضان الطبيعة، تتنفس بهدوء تحت سماء صافية. الطريق الترابي يتلوى بين حقول القمح والبرسيم، يغطيه غبار الشمس كل صباح. أصوات الماعز والأبقار تنساب من بعيد، متداخلة مع حفيف الأشجار، وتتعالى بين الحين والآخر ضحكات الأطفال الحفاة، وهم يركضون خلف فراشات الصيف، ممتزجين بنسائم الهواء المشبعة برائحة الطين.
وحين ينحسر ضوء الشمس خلف الأفق ،مودعة بأطياف متراقصة من الأرجواني والبرتقالي والوردي تهمس للبحر والسماء،ليطل القمر كعاشق قديم ينساب من أحضان الظلام، ينثر ضوءه الفضي كوشوشة حنين تلامس الوديان برفق، بينما تطبع الظلال صورها على جدران المنازل الطينية المتهالكة. الحياة هنا هادئة، لكنها تخفي أسرارًا في كل منزل.
وفي هذا الهدوء الذي يظنه البعض سكينة، كان هنالك من يرفع الستار عنه ويسرد الحكايات، صوت "حارس" الذي يعزف ألحانه ويجلب معه ذكريات قديمة، حكايات ضاعت بين طيات الزمن.
حارس، رجل في العقد الخامس من عمره، يتمتع بخفة ظل ومهارة فائقة في تحريك دُمية الأراجوز، إلى جانب إجادته العزف على ثلاث آلات شعبية: الربابة، والمزمار، والطبلة. موهبته صنعت له لحنًا خاصًا به، مرتبطًا بدميته كالأب بطفله، في تناغم يفيض بالألفة والتجانس، حتى يبدو لمن يراه بنحافته وأنفه الطويل وكأنه الأب الشرعي لهذا الأراجوز.
يخرج كل يوم من كوخه المتواضع على أطراف القرية، في هندام بسيط لكنه أنيق، يحمل معه اعتزازه بنفسه. يمر عبر الشارع الرئيسي، حاملاً مسرحه الصغير على ظهره، بينما في جيب جلبابه، ناحية قلبه، تبرز دُمية الأراجوز كصغير كنغارو يطل برأسه من بين طيات القماش. يعزف لحنه المميز، فيحمل صوته روح الريف بآلاته الشعبية، التي يعلقها في رقبته وعلى كتفيه.
يلتف الأطفال حوله من كل حدب وصوب، يرافقونه وهم يتراقصون ويصفقون على إيقاع أنغامه، تتلألأ أعينهم شغفًا، وكأن ألحانه تحرك أرواحهم قبل أجسادهم. ويتفاعل معه الأهالي الذين يصادفون مروره، فتبدو على وجوههم السعادة والامتنان، كأطفالهم الذين أصابهم السحر لأنغام "حارس". ينثر البهجة أينما حل، ثم يتوجه إلى باحته المعهودة، حيث ينتظره الجميع، كبارًا وصغارًا، ليحكي لهم حكاية جديدة.
في قلب هذا المسطح الأخضر، الذي تحرسه الأشجار السامقة المعمّرة، وتجاوره أجران التبن المتاخمة للبيوت، يمتد الطريق الوعر المنحدر من التل الجبلي المحيط بالقرية، ذلك الطريق الوحيد الذي يربطها بالعالم الخارجي. هنا، كان "حارس" ينصب مسرحه الصغير، مستعدًا لتقديم عرضه الساخر. ومن خلف فتحات المسرح، كان يراقب جمهوره، مستشفًا من تعابير وجوههم مدى التأثر بما يقدّمه.
وما إن ينتهي العرض حتى يخرج بمنديله، يطوف بين الأطفال الذين يضعون له قروشهم، وبعض ثمار الخضار والفاكهة، والبيض، والخبز. تمر الأيام، وتتابع الحوادث والمآسي، لكن "حارس" يظل غافلًا، يتجاهل هموم أهل قريته، متحاشيًا الخوض في مشكلاتهم، متعاليًا عليهم بسلبية واضحة. مع كل موقف كان يشيح بوجهه بعيدًا، لكن دُمية الأراجوز لم تكن تتركه، تحدّق فيه بنظرة عتاب صامتة، فيشيح عنها هو الآخر، متجاهلًا تأنيبها المستمر، وكأنها تهمس له: لسنا مجرد وسيلة للتسلية والمرح، بل وُجدنا لنحمل همومهم، ونشاركهم أحزانهم قبل أفراحهم.
تمادى "حارس" في سلبيته، وبدأ جمهوره يتناقص يومًا بعد يوم. تضاءلت موارده، فانحسر جمهوره، وابتعد مريدوه، حتى وجد نفسه وحيدًا، فقد بريقه المعتاد، وهزل جسده، وخبا لمعان هندامه. صار يعزف لحنه المميز، لكن دون جدوى، إذ لم يكن يلقى سوى التجاهل ونظرات الاستهجان.
كل صباح، كان يذهب إلى باحته المعهودة، ينصب مسرحه، ويحرك أراجوزه بيد مرتعشة، محاولًا استعادة اهتمام الناس. لكن دُمية الأراجوز ظلت تنظر إليه بتلك النظرة المؤنبة، وكأنها تعكس مرآة ضميره الغائب.
وذات صباح، نهضت دُمية الأراجوز وقررت أن تصلح ما أفسده صاحبها. خرجت إلى الناس وحدها، تساعد هنا، وتساند هناك، تشارك في أفراحهم، وتواسيهم في أتراحهم، حتى أصبحت رمزًا للحياة الإيجابية. أحبها الناس، وقدموا لها الطعام والهدايا امتنانًا لما تفعله. كان "حارس" يراقبها من بعيد، يشعر بوخز الندم يتسلل إليه.
تعود إليه الدمية كل يوم، وعلى وجهها بشاشة، تحمل معها ما جلبته من قوت، وكأنها تعلمه درسًا صامتًا عن العطاء. شيئًا فشيئًا، بدأ "حارس" يتعافى، يسترد عافيته وروحه التي خسرها، حتى جاء يومٌ خرج فيه مرة أخرى، مستأنفًا عمله، لكن هذه المرة... كان إنسانًا آخر.
أثناء احتشاد أهل القرية لمشاهدة عرضه، لمح الرجل من خلال فتحات مسرحه جرارًا زراعيًا متهالكًا يجر خلفه مقطورة محمّلة بالمحاصيل فوق طاقتها. في لحظة خاطفة، اختل توازن الجرار على الطريق الوعر، وانفلت الإطار الخلفي العملاق، مندفعًا بسرعة هائلة نحو العربة الكارو المتوقفة أسفل الطريق، حيث تُعبَّأ براميل المواد البترولية.
هناك، كان أحد الأهالي يملأ چركن كيروسين بمضخة يدوية، بينما يجلس على مقربة منه فلاحان أشعلا موقدًا لإعداد الشاي. رأى الرجل المشهد يتشكل أمامه، كأنه كابوس يراه رأي العين: الاصطدام، تدحرج البراميل، تسرب المواد الملتهبة، النيران التي ستلتهم القرية بأكملها… في لحظة، حُسم الصراع داخله، وانطلق كالسهم.
بذراعه اليمنى، التي لا تزال ترتدي دُمية الأراجوز، ألقى بنفسه في طريق الإطار، مثل حارس مرمى يذود عن مرماه ويتصدى لهجمة مرتدة شرسة . دفع الإطار بعيدًا عن العربة، لكن ثمن البطولة كان قاسيًا… سُحقت ذراعه تحت العجلة العملاقة، التي هوت عليها بكل ثقلها، فوق صخرة مدببة، فبُترت في لحظة واحدة.
ثم… الظلام.
استفاق بعد أيام، ليجد نفسه في منزل جميل، لا يشبه كوخه المتهالك. تلفت حوله في حيرة، عيناه تقعان على منضدة في المنتصف، فوقها طعام شهي… دجاج وأرز وخضروات، جلباب جديد مطوي بعناية، وحذاء يشبه حذاءه "الكاوبوي" القديم. التفت إلى يساره، فوجد دُمية الأراجوز تتوسد ذراعه اليسرى، بعدما كانت دائمًا تسكن اليمنى.
في البداية، لم يدرك معنى ذلك… لكنه حين مد يده اليمنى ليزيح الغطاء، توقف فجأة. لا شيء هناك. مجرد فراغ.
جحظت عيناه، وبدأ قلبه يخفق بعنف. تحسس موضع البتر ببطء، كما لو كان يحاول إنكار الحقيقة. ثم، وكأن كل شيء انهار في لحظة واحدة، تساقطت دموعه بصمت. كان وجهه يغرق في البؤس، ذقنه النابت وشاربه غير المشذب يضيفان إليه مزيدًا من الشحوب. لم يتحرك، فقط ظل يحدق في الفراغ الذي كان يملؤه يومًا بشيء منه.
كانت دُمية الأراجوز تراقبه. في البداية، بدت ملامحها حزينة… ثم، عندما التقت عيناه بعينيها الزجاجيتين، تغيرت نظرتها. لم تكن شفقة… كانت فخرًا وامتنانًا.
مال برأسه نحوها، وترك دموعه تمتزج بدموعها.
في الخارج، بدأت همهمات خافتة تتسلل إلى مسامعه، تزداد شيئًا فشيئًا حتى تحولت إلى جلبة… لكنه لم يكن مستعدًا للالتفات بعد.
ثم تصاعدت الأصوات أكثر، فبدأ في البحث عن مصدرها. سرعان ما التقطت أذنه لحنًا مألوفًا ينبعث من آلاته الموسيقية الشعبية، في تناغم عذب وعزف جماعي متمكن. تتهلل أساريره في دهشة، يحتضن أراجوزه، ويزيح الغطاء بقدمه قبل أن ينهض متثاقلًا، متوجهًا نحو النافذة التي تحولت إلى مسرح لدميته.
يخطو نحوها وهو يتبادل نظرات الدهشة الممزوجة بالفرح مع أراجوزه، ليطل أسفلها، حيث لمح كوة صغيرة بالحائط، وأسفلها صندوق نحاسي لم يتبين ماهيته. يتبادل نظرات التساؤل مع دميته، لكن لا إجابة تأتيه، فيظل يحدق في الصندوق وكأنما ينتظر منه أن يبوح بسرّه.
ترتفع أنغام اللحن المميز وسط تصفيق جماعي، فيزيح الستائر لاستطلاع الأمر. وإذا به أمام مسرح مكشوف داخل حديقة صغيرة بديعة، اصطفت فيها الأرائك والمقاعد الخشبية التي جلس عليها أهالي القرية، وقد ارتدى الجميع دُمية الأراجوز خاصته. وعلى مقربة منهم، نُصب مسرح صغير يجلس عليه بعض الأطفال كأوركسترا، يعزفون لحنه المميز. وما إن يروه، يقفون جميعًا ويحركون دُماهم بحركات راقصة متناسقة مع اللحن، وقد ارتسمت على وجوههم ابتسامات ممتنة بتضحيته.
تنهمر دموع العرفان الممزوجة بالفرح من عينيه، يتبادل نظرات الود والامتنان مع دميته التي ما زال يحتضنها بيده اليسرى. لكن سرعان ما يغشى وجهه الحزن، فينسحب إلى الداخل، يغلق الستائر. ينظر الأهالي في أثره بحزن وشفقة، يتبادلون النظرات ذاتها، ثم يجلسون في أسى بالغ، بينما تبدأ الموسيقى في الخفوت، ويختلط عزفها بنشاز يعكس خفوت الأمل.
لكن ثلاثة من الأطفال ظلوا يعزفون، متشبثين بالإيقاع، تغلبهم الحماسة والإصرار، فيما ينظر إليهم الجالسون بشفقة، وكأنهم يقولون: "لا جدوى من ذلك." لكن الأطفال يزدادون إصرارًا، فتتحول شجاعتهم الصغيرة إلى عدوى. يلتقط باقي العازفين آلاتهم، ويستأنفون العزف بتناغم وحماسة، مما يجعل الأهالي يوجهون لهم نظرات الإعجاب، لفهمهم أن العزيمة لا تستسلم لليأس.
وفي خضم هذا المشهد، تخرج دمية الأراجوز من بين ستائر المسرح، وقد أمسك بها الرجل بيده اليسرى، يحركها بحركات راقصة مضطربة، تفتقر إلى مهارة يده اليمنى. تتركز كل الأنظار عليه، تغرورق المآقي بدموع الفرحة، وتعالت الصيحات. يرفع الأهالي أيديهم، يحركون دُماهم بنفس الطريقة المتعثرة، فلا مهارة هنا ولا احتراف، بل مشاعر تتراقص على وتر الوجدان.
يدفع الهواء ستائر المسرح الصغير، ليظهر الرجل متهلل الأسارير، وقد حلق ذقنه، رغم الجروح الصغيرة التي تركها استخدام يده اليسرى، بينما ظل نصف شاربه الأيمن غير مشذب، مما أضفى عليه طابعًا ساخرًا يعكس تصالحه مع فقدان ذراعه. تفيض عيناه بالسعادة والامتنان، فيما تبرز الحجرة من خلفه: سريره أُعيد ترتيبه، ولكن بلا إتقان، منضدة الطعام خالية، لكن بقايا الطعام متناثرة عليها، كدليل على استخدامه يده اليسرى غير المعتاد عليها، جلبابه الجديد يكسوه، وحذاؤه الكاوبوي في قدميه، لكنه ترك أربطته مدلاة، لأنه لم يتمكن من ربطها بيد واحدة.
يبدأ الأهالي والأطفال في التوجه نحو مسرح الأراجوز، ثم يلقون نقودهم وثمارهم في الكوة، لتسقط في الصندوق الموجود خلفها، ليحفظوا له كرامته. يراقب المشهد، ثم ينظر إلى الكوة والصندوق، وقد فهم أخيرًا: لم يكن الأمر مجرد مساعدة، بل رسالة امتنان، وحفظٍ للكرامة.
يخرج الجميع من باحة الحديقة، لتبرز خلفهم لوحة رخامية محفور عليها دُمية الأراجوز، وأسفلها نقشٌ يقرأه الرجل بصوتٍ يتهدج:
"أهلًا بكم في بيت ومسرح قلب الأراجوز."