السيناريست عماد النشار يكتب: مزاجية الفنان لعنة الإبداع أم سر العبقرية؟


يجلس الفنان في غرفته، تتأرجح مشاعره بين أمل غامض وحزن لا يعرف مصدره، يلتقط ريشته أو قلمه، ينفث من روحه صخبًا صامتًا لا يسمعه أحد إلا لوحته، أو روايته، أو سيمفونيته العالقة بين النوتات. هل هذه المزاجية لعنة الإبداع؟ أم أنها السرّ الخفي وراء أعظم الأعمال الفنية؟.
على مرّ العصور، كان للمفكرين والفلاسفة رؤى متباينة حول هذه العلاقة الجدلية بين المزاج والفن. أفلاطون، الحكيم الأول، اعتبر أن "الفن هو محاكاة للحياة"، لكنه لم يتجاهل تلك المشاعر التي تحكم المبدع، إذ رأى أن الفنان يسعى إلى التعبير عن شيء يتجاوز الواقع، مما يضعه في حالة نفسية مضطربة. أما أرسطو، فقد ذهب أبعد من ذلك، مؤكّدًا أن "المزاج هو الأداة التي تُستخدم لخلق الشعر والمسرح"، في إشارة واضحة إلى أن المزاج ليس عائقًا بل ضرورة.
ولكن ماذا عن الجانب النفسي؟ هنا يأتي سيغموند فرويد ليؤكد أن "الفنان هو الشخص الذي يستطيع أن يحول صراعاته الداخلية إلى أعمال إبداعية"، أي أن الألم والتقلبات المزاجية هي جزء من عملية تحويل المشاعر إلى صور وألوان ونغمات. بينما رأى كارل يونغ أن الفنان هو "من يتعامل مع الظلال في نفسه ويحاول فك رموزها"، مما يفسر كيف أن العباقرة غالبًا ما يكونون شخصيات غامضة ومزاجية، لأنهم يخوضون رحلة داخلية معقدة بحثًا عن المعنى.
وفي الأدب، لم يكن الأمر مختلفًا، فقد تحدث تشارلز ديكنز عن أن "الفنان الذي يخلق هو من يمتلك قلبًا حساسًا ومزاجًا دائم التغير"، وكأنه يلمح إلى أن الإبداع لا يمكن أن يأتي من نفس رتيبة، بل يحتاج إلى مشاعر تتذبذب بين الأمل واليأس. أما فريدريك نيتشه، المتمرد الفلسفي، فقد ذهب إلى اعتبار أن "الفن هو تسامي الروح"، وهو ما يفسر كيف يمكن للفنان أن يرفع حالته المزاجية إلى مستوى أعلى عبر الفن، حتى لو كان في أقصى حالات الألم.
لكن هل هذه المزاجية مجرد اضطراب عابر أم أنها سمة ضرورية للإبداع؟ إرنست همنغواي، الكاتب الذي عاش في قلب العواصف النفسية، يجيب قائلًا: "الإبداع لا يأتي من الراحة العقلية، بل في أحيان كثيرة، يأتي الفن في أسوأ حالات المزاج"، وكأنه يوضح أن لحظات الحزن والاضطراب قد تكون أكثر تحفيزًا للإبداع من لحظات السعادة المطلقة.
ويبدو أن هذه الحالة لم تكن مجرد نظرية، بل واقعًا أكده علماء النفس. فإريك فروم يرى أن "الفن هو مظهر من مظاهر حالة المزاج العقلي"، أي أن المزاج لا يؤثر فقط على طريقة الإبداع، بل يشكّل جوهره. كما أن نظرية التدفق في علم النفس تشير إلى أن الفنان يصل إلى قمة الإبداع عندما يكون في حالة مزاجية متناغمة مع عمله، أي أنه يدخل في حالة انسجام داخلي عميق.
لكن المثير في كل هذه الرؤى هو أن المزاج ليس مجرد وسيلة للإلهام، بل هو جزء من هوية الفنان نفسه. مارك توين قالها بصراحة: "الفنان الذي يُبدي مزاجًا متقلبًا يُعتبر من أعظم المبدعين"، فهو يعيش في قلب العاصفة، لكنه قادر على تحويلها إلى شيء يُلهم الآخرين. وكذلك توماس مان الذي أشار إلى أن "الفن هو القدرة على تحويل المزاج الشخصي إلى شيء جماعي"، مما يعني أن الفنان، رغم فرديته الشديدة، يستطيع أن يجعل الآخرين يشعرون بما يشعر به.
إذن، هل المزاجية لعنة أم سرّ العبقرية؟ الإجابة ليست بسيطة، فهي تعتمد على الطريقة التي يتعامل بها الفنان مع تقلباته النفسية. فإذا استطاع أن يوجّهها في خدمة فنه، أصبحت وقودًا للإبداع، وإن تركها تسيطر عليه، فقد تتحول إلى عبء ثقيل. وكما قال باولو كويلو: "الفنان يعيش في حالة دائمة من البحث عن معنى في الحياة"، وهذا البحث هو ما يجعل إبداعه خالدًا، حتى لو كان في أعماقه إنسانًا يعاني من مزاج لا يهدأ.