السيناريست عماد النشار يكتب: تاجرُ البندقيّة.. من شايلوك إلى النّتَن ياهو!


على مسرح البيت الأبيض، وقف من لا يملك إلا سلاح الابتزاز، يمنح بوقاحة من لا يستحق إلا الشتات، ويهدي المحتل قبلة الحياة تحت تهديد القوة، ليداري خيبته العسكرية والسياسية التي فضحتها المقاومة الباسلة. لم يعد العالم بحاجة إلى خشبة مسرح لتُعرض عليه التراجيديات، فالمأساة صارت واقعًا، والأبطال – أو بالأحرى الأشرار – صاروا أناسًا من لحم ودم، يعيدون أدوار أسلافهم لكن بحقد أشد، وجشع لا يعرف قاعًا.
بالأمس، كانت المسرحيات تُعرض على خشبات المسارح، تُصاغ في خيال الأدباء، وتتجسد في أبطال من ورق، لكن اليوم، صار العالم كله مسرحًا، والأبطال – أو بالأحرى الأشرار – أناسٌ من لحم ودم، يصوغون فصول المأساة بأفعالهم، ويعيدون إنتاج أدوارٍ قديمة بحقد أشد، وجشع لا يعرف قاعًا.
في أواخر القرن السادس عشر، قدم ويليام شكسبير رائعته "تاجر البندقية" على خشبة مسرح "ذا جلوب" في قلب لندن. وبين فصولها، برز شايلوك، المرابي اليهودي الذي اختزل صورة الحقد والجشع والكراهية في شخصية واحدة.
لم يكن مجرد تاجر عادي، بل وحش بشري لا يرى في الآخرين إلا أدوات للربح والانتقام. لم يكن المال غايته فقط، بل النيل من خصومه بكل الطرق، حتى لو تطلب الأمر حرفيًا اقتطاع "رطلٍ من اللحم" من جسد أنطونيو، ضحيته المسيحية.
كان شايلوك هو التجسيد الحي لمعادلة الفائدة المطلقة: من يقترض منه يُرهن بجسده، ومن يعجز عن السداد، يُسدد الدين من حياته.
نقف اليوم في مسرحٍ جديد، لكن هذه المرة في البيت الأبيض، حيث يتجسد شايلوك العصر، ولكن ليس كمرابٍ يعرض المال بفائدة، بل ككيان استعماري غاصب، يستقوي على أصحاب الأرض، ويمضي في مشروعه بلا مواربة. إنه الاحتلال الصهيوني، الذي لم يكتفِ بسرقة فلسطين، بل يريد اليوم اقتلاع ما تبقى منها، تمامًا كما أراد شايلوك اقتطاع لحم أنطونيو.
وإذا كان شايلوك القديم يتحامى خلف قوانين البندقية، فإن شايلوك العصر يحتمي خلف نمرود العصر، دونالد ترامب، الذي لا يحمي دائنًا يطالب بحقه، بل كيانًا مدينًا للإنسانية بالجرائم والمجازر، ويمنحه بوقاحة مفاتيح التوسع والتهجير. وقف ترامب ونتنياهو ليعلنا – ببرود يفوق برودة محكمة البندقية – عن مخطط تهجير الفلسطينيين من غزة إلى مصر والأردن، في خطة لا تقل وحشية عن شروط المرابي العجوز.
لكن هذه المرة، لا يتعلق الأمر برطلٍ من اللحم، بل بمصير شعب كامل. والمفارقة أن من يفرض شروطه ليس دائنًا كما كان شايلوك، بل مدينًا بجرائم إبادة وسرقة وتاريخ من الدماء، يستحق أن يُقتطع هو من كل أرض دنّسها.
غير أن المسرحية لم تكتب نهايتها بعد...
فكما وقفت بورشيا، المحامية المتنكرة، في وجه شايلوك لتفضح جشعه وتسقط مخططه، هناك اليوم مقاومة فلسطينية لا تسمح لهذه الجرائم أن تمر بلا ثمن. في كل بيت فلسطيني، في كل شارع بغزة، في كل زقاق بالضفة، هناك من يحمل الشعلة ويقف سدًّا منيعًا ضد مخطط التهجير والتصفية. ليست القضية مجرد أوراق توقع في البيت الأبيض، بل نضال مستمر يتجدد مع كل يوم، وكل دمعة، وكل قطرة دم تُراق دفاعًا عن الأرض.
وكما انتهى شايلوك القديم بالهزيمة والانكسار، سيأتي اليوم الذي يُقتلع فيه شايلوك العصر، لا برحمة محكمة، بل بعدالة المقاومة، التي تعرف أن هذا الكيان المدين بالجرائم، لا يستحق إلا الإبادة من صفحات التاريخ.
في هذه اللحظة، يعيد التاريخ مشهده، لكنه هذه المرة ليس مجرد تمثيلية على خشبة مسرح، بل حقيقة تنبض بالحياة. كما وقفت بورشيا في وجه شايلوك وأفسدت خطته، ستنهض أصوات أخرى في وجه هذه الصفقات المشؤومة.
الفارق الوحيد أن المسرح هذه المرة ليس قاعة محكمة في البندقية، بل ساحات النضال من غزة إلى القدس، ومن القاهرة إلى نيويورك، حيث يدرك الجميع أن العدالة ليست ورقة تُوقع، بل حق يُنتزع.
ومثلما انتهت مسرحية شكسبير بفضح نوايا شايلوك، فإن مسرحية العصر الحديث لم تنتهِ بعد. لأن الشعوب، بخلاف الشخصيات المسرحية، لا تُكتب لها نهايات جاهزة، بل تكتب مصيرها بنفسها، بدمها وكفاحها وإيمانها بأن الظلم، مهما طال، لا بد أن يُهزم في النهاية.