السيناريست عماد النشار يكتب ”دولت فهمي.. ناظِرَةُ الثَّوْرَةِ المُغْدُورَةِ”
أنا حواخيوط الشمس تمتد ببطء عبر النافذة، تلامس وجه دولت فهمي، وهي تقف أمام مرآتها تضيء ملامحها برقة، وتكشف عن جمال هادئ يشع من داخلها، عيناها تتأمل انعكاسها في صمت، كأنها تودع نفسها قبل أن تبدأ يومها المجهول. يدها تمتد إلى مشطها الخشبي، تمرره على خصلات شعرها الداكن الطويل بانسيابية، تلامس كل خصلة وكأنها تتلمس ملامح مستقبلها الذي لا تعرفه بعد. في عينيها يختلط التردد مع العزم، وروحها ترفض الخضوع، وتحدي الحياة يضيء وجهها رغم الغموض الذي يحيط بها. كأنها تودع نفسها قبل أن تغادر إلى يوم جديد يحمل في طياته مصيرًا لا تعرفه.
تغلق باب شقتها برفق، تخطو نحو شوارع القاهرة المزدحمة، حيث تتنقل بين الأزقة والحارات الضيقة. تتوقف عند فناء مدرستها، مدرسة الهلال الأحمر القبطية للبنات. تبتسم لبعض طالباتها اللواتي يحملن الكتب بين يديهن، وحاضر يحمله لهن الاحتلال، وتلقي نظرة الوداع وكأنها تعلم أن يومها قد أتى إلى نهاية لم تكن تتوقعها. خطواتها تزداد تسارعًا، فهي لا تملك رفاهية التردد، والدور الذي أدته في الحياة سيكون أكبر بكثير مما تراه الآن.
تتحرك في أزقة القاهرة بحذر، تراقب الوجوه، تحفظ الملامح، تتلقى الرسائل دون أن تهتز يدها، تحمل الأوامر كما لو كانت ورقة فارغة، لكنها تعلم أن كل سطر فيها يعني حياة أو موتًا. العالم يظنها معلمة، لكنها تحمل سلاحًا آخر، كلمتها، قدرتها على التضحية، استعدادها للموت من أجل وطن لا يمنح أبناءه سوى الظلال الطويلة للمشانق.
من قلب صعيد مصر، وفي خطوة غير قابلة للرجوع، عبرت دولت فهمي حدود قريتها أبو عزيز في مطاي بالمنيا، متجهة نحو القاهرة... حيث بدأت رحلة لن تحمل معها سوى الوداع. لم يكن انتقالها مجرد تحوّل جغرافي، بل كان قفزة نحو مصير جديد حملته على كتفيها دون تردد. في المدرسة، لم تكن مجرد ناظرة؛ كانت ترى في منصبها وسيلة لتحقيق طموحات تتجاوز جدران الفصول.
انضمت إلى التنظيم السري "اليد السوداء"، الذي حمل على عاتقه مقاومة الاحتلال البريطاني وأعوانه من المصريين الفاسدين. وكانت دوافعها لهذا الاختيار ليست مجرد انفعال لحظي، بل كانت قناعات راسخة في قلبها، تشبعت بها منذ صغرها. وعندما وقع عبد القادر محمد شحاتة، أحد أعضاء التنظيم، في قبضة الاحتلال، كان قد حاول اغتيال محمد شفيق باشا، الوزير الذي ارتضى العمل تحت الحماية البريطانية، وانتهى به الأمر يواجه حكم الإعدام. جاءها الأمر بالإسراع في إنقاذه ومحاولة إنزاله من حبل المشنقة، ولم تتردد لحظة في اتخاذ قرارها. كان الأمر أكبر من أن تتركه الظروف، فقد حملت مسؤولية إنقاذه كأنها حملت على كتفيها مصيرًا آخر. أسرعت لتنفيذ الأمر رغم أنها لم تقابله من قبل.
دخلت المبنى الرخامي الفخم حيث تُدار العدالة بميزان مائل. كان المكان يعج بالسلطة التي تتنفس قسوة، ورغم ذلك، لم ترتعش، لم تخفض عينيها، فقط تقدمت. كانت تعلم أن كل كلمة تنطقها قد تعني نهايتها، لكنها مضت كأنها تسير فوق خط ممتد إلى اللانهاية. وفي اللحظة التي سُئلت فيها عن مكان تواجد شحاتة ليلة الحادث، أجابت بصوت هادئ ولكن متماسك، "كان ييبت عندي، إنه عشيقي." كل لحظة في تلك الغرفة كانت تشهد على احتمالات متعددة لنهاية غير متوقعة، لكنها بقيت ثابتة، مدفوعة بعقيدتها وموقفها الذي لا يتزعزع.
وحين أدخلوه إلى مكتب التحقيق، لم تتراجع دولت لحظة، بل انتفضت من مكانها وكأن صدمة مفاجئة اجتاحت قلبها، وارتمت عليه بانفعالٍ أشبه بمن فقدت آخر خيط أمل لها. ارتعشت يداها وهي تحاول لمسه، ثم تراجعت بارتباك، وغطت وجهها بكفيها، بينما الدموع انسابت على وجنتيها بلا تكلف. كان المشهد متقنًا لدرجة أن العيون تبادلت النظرات بدهشة، وكأنهم يشاهدون عرضًا دراميًا لا يمكن تصديقه؛ لم تكن ممثلة، لكنها في تلك اللحظة تحولت من دولت فهمي الناظرة الثائرة إلى دولت أبيض الممثلة القديرة بل وتفوقت قبل أن تصبح الأخيرة نجمة المسرح والسينما
أما شحاتة، فوقف ساكنًا كتمثال، وقد تجمدت ملامحه كمن لا يدرك ما يحدث حوله. عيناه تجوبان الوجوه كمن يبحث عن مخرج، لكن المفاجأة شلّت منطقه. لم يستطع سوى التحديق في تلك المرأة التي لا يعرفها، والتي صنعت له حكاية لم يعشها يومًا. كان المشهد أقرب إلى دراما تلاعبت بأقداره، فبدت دولت في عينيه كأصدق كاذبة، وأوفى خائنة، وأشجع من حمل عبء التضحية في لحظة لا مجال فيها للندم.
بصوت مخنوق، قالت وهي تنظر إلى النائب العام:
"أرجوكم، لا تأخذوه مني... لم يكن هناك، لقد كان معي... أقسم أنه كان معي!"
لم يكن هناك مجال للشك، فقد صدقوها... ولم يشكّ أحد في أن هذه المرأة التي تبكي بحرقة كانت تخوض أكبر تمثيلية في حياتها، من أجل قضية آمنت بها حتى النهاية.
خرجت من المحكمة، والشمس ما زالت في السماء، ولكنها شعرت ببرودة تسري في عظامها. في الأيام التالية، تسللت الهمسات في كل زاوية، وأصبحت نظرات الاتهام تلاحقها حتى في جدران مدرستها. كل شيء تغيّر. أصبح الهواء ثقيلًا في رئتيها، وكأن القاهرة بدأت تلتهمها. كان ثقل التضحيات التي قدَّمتها لا يُقاس، إذ عاشت بين نيران العزلة والوحدة، بينما كان التاريخ يحاول طمس كل ما فعلته.
انتشر الخبر في ربوع مصر كصاعقة هزت كل شيء، وأجبرت الجميع على الوقوف عند حدود الصمت. في المنيا، حيث تعيش عائلة دولت فهمي، كانت المفاجأة بمثابة ثقلٍ لا يمكن تحمله. كانت دولت في عيون الجميع معلمة مثالية، امرأة تملك سمعة طيبة، لا يتجرأ أحد على النيل منها. ولكن الآن، أصبح اسمها مرادفًا للعار، والكل ينظر إليها كخائنة.
الخبر انتشر كالنار في الهشيم، يحمل عاصفة من الشكوك والألم. كل زاوية من زوايا قرية أبو عزيز كانت تتردد فيها الأحاديث المسمومة، والعيون تتنقل بين أفراد العائلة وكأنهم جميعًا جزء من الجريمة التي ارتكبتها. الجميع في المنيا كان يعرف دولت كأيقونة من الأخلاق، فتاة تسير على درب الفضيلة. الآن، يُنظر إليها كما لو كانت إحدى ضحايا الهزيمة التي ألقت بنفسها في أيدي الطغاة.
لم يكن أخوها مجرد فرد في العائلة، بل كان تجسيدًا لموروث ثقيل من القيم والتقاليد التي لا تتسامح مع أي مساس بالسمعة. كان يكبرها بعدة أعوام، يحمل في روحه صورة الأخت الصغرى التي نشأت في بيتهم الطيني بقرية أبو عزيز في المنيا، طفلة تلهو في الحقول، ثم فتاة ناضجة يحترمها الجميع، ويشيرون إليها بفخر.كان حاميها، لكنه كان أيضًا قاضيها.
حين قرر السفر إلى القاهرة لإعادتها، لم يكن ذلك قرارًا شخصيًا، بل كان مرسومًا عائليًا صدر بالإجماع، همس به كبار العائلة خلف الأبواب المغلقة، وتمتمت به النساء في زوايا البيوت. حملوه ليديه كما يُحمل السيف، لم يكن الأمر اختيارًا، بل واجبًا مقدسًا لا يقبل التأجيل.
على متن القطار، جلس في ركن بعيد، يراقب الحقول الممتدة خلف النافذة، لكنه لم يكن يراها حقًا. كان ذهنه مثقلًا بأسئلة بلا إجابة.
كيف أصبحت دولت، تلك الفتاة الطاهرة، محور فضيحة تتناقلها الألسن في الأسواق والبيوت؟
كيف جلبت العار لاسم العائلة؟
وهل يمكن أن يكون كل هذا مجرد افتراء؟
في داخله، لم يكن قادرًا على التصديق. فقد نشأ معها، يعرف أخلاقها جيدًا، لكن كلمات الناس كانت كالمطرقة، تهوي بلا رحمة لتسحق شرفه
حين وصل إلى القاهرة، لم يطرق باب شقتها فورًا. وقف يتأمل الباب كأنه يرهبه، كأن تلك الخشبة الفاصلة بينهما تحمل من الأسرار ما يثقل كاهله. ابتلع ريقه، ومد يده بتردد، لكنه في النهاية طرق بعنف، كأنه يواجه مصيره.
فتحت له الباب، وعيناها تحملان مزيجًا من التعب والحزن. لم يكن في وجهها خوف، بل استسلام هادئ، وكأنها تعرف كل شيء قبل أن يُقال. تلاقت أعينهما للحظات طويلة. لم يقل شيئًا، لكنها فهمت كل شيء.
جلسا في صمت. الهواء بينهما كان ثقيلاً، مثل جبل من الكلمات غير المنطوقة. لم يعرف كيف يبدأ، لكنها بدأت:
— "لم أفعل ما يقولونه عني. لم أخن شرفي. ما فعلته... كان من أجل شيء أكبر."
ولكن كلماته جاءت قاسية، كالسياط التي لا ترحم:
— "أكان الوطن بحاجة لأن تحملي العار فوق رأسك؟ أكان النضال لا يجد طريقًا سوى هذا؟"
أرادت أن تصرخ، أن تمسك بكتفيه وتقول: لم أفعلها لنفسي، بل لأجلكم جميعًا! لكنها رأت في عينيه الجدار الصلب نفسه الذي أقامته العادات قبل قرون. لم يكن يريد أن يفهم، أو ربما كان يفهم لكنه يرفض التصديق.
في طريق العودة، جلسا جنبًا إلى جنب في القطار، لكن المسافة بينهما كانت أوسع من أي وقت مضى. كان القطار يهتز بهما، لكنها لم تشعر بشيء سوى الفراغ المتزايد بينهما. كان شقيقها جسدًا بجوارها، لكنه بدا بعيدًا كما لو كان يجلس في مقصورة أخرى. راحت ترقب الأشجار وهي تتلاشى، تمامًا كما تتلاشى أيامها الأخيرة في هذا العالم.
عادت دولت إلى المنيا، ولكن كل شيء قد تغيّر. كانت الطرقات تهمس باسمها في كل خطوة، تردد اللعنة التي لن تنساها القرية أبدًا. حتى الريح، لم تعد تحنو عليها، بل صارت تمزقها كخناجر صامتة. لم يكن عليها أن تسأل عن مصيرها، فقد كان واضحًا.
طوال الطريق، كان أخوها يسير بجانبها في صمت ثقيل، يتنقل بين الغضب والندم، وفي قلبه صراع لا يهدأ. الشجر والحجر على جانبي الطريق كانا كأنهما يحاولان أن يخففا من ثقل حزنها، ولكن لا شيء يمكنه أن يخفف الألم الذي يعتصر قلبها. كانت تعلم أن اللحظة قد حانت، وأنها أمام مفترق طرق ليس فيه عودة.
لكن ما كان يعذبها أكثر من أي شيء آخر هو أن تضحيتها لم تكن فقط على حساب حياتها، بل على حساب شرفها وسمعتها في وطن ينهشه الاحتلال، ويغتصب كل شيء، حتى كرامة أبنائه.
عندما وصلوا إلى المقابر، أوقفها أخوها فجأة، وكأنما هو أيضًا يشعر بثقل اللحظة. وقفت مكانها، وقد اختلطت مشاعرها بين الخوف والحزن والغضب. كانت تعرف في أعماقها أن لا شيء سيعيد عقارب الساعة إلى الوراء.
رأت نفسها طفلة، تمسك بيد أخيها وتركض في شوارع القرية. كان يحميها من كل شيء، من السقوط، من الأحجار، حتى من الريح التي كانت تعبث بشعرها. كان أخوها بطلها... فمتى أصبح جلادها؟
رأت لحظة وقوفها أمام النائب العام، كيف رفعت رأسها، كيف نطقت بكلماتها بثبات. لم تخن نفسها يومًا، لكنهم قالوا إنها خائنة. نظرت إليه، إلى عينيه الممتلئتين بالغضب والخذلان... هل كانت تستحق هذا المصير؟
وحين رأته يخرج السكين من طيات ثوبه، لم ترتجف. لم تكن بحاجة إلى أن تسأله. كان الأمر قد حُسم منذ زمن.
تنفست بعمق، وكأنها تودع الهواء للمرة الأخيرة. لم تهرب، لم تحاول الدفاع عن نفسها. فقط همست، كأنها تعاهد نفسها للمرة الأخيرة:
— "لم أخنك، كنت أنا الوفية الوحيدة لهذا التراب."
لم يكن موتها مجرد نهاية. كان الفصل الأخير في قصة امرأة ضحت بكل شيء من أجل وطنها، من أجل كل امرأة في هذا الوطن الذي اغتصب الاحتلال كل ما فيه. كانت شهادتها السبب في تغيير مصير شحاتة، ولكن حتى بعد خروجه من السجن، كان يحمل في قلبه الحزن على فقدان من ضحت من أجلهم.
وبموتها، لم يكن الضحية فقط هي دولت، بل كان الوطن بأسره، لأن دمها المهدور على يد أخيها لم يكن مجرد تضحيات ضاعت سدى، بل كان لعنة ستظل تطارد الجميع، وكأنها لم تكن يومًا الناظرة التي سطرت بدمها تاريخًا من التضحية، بل طيفًا غُيب عمدًا عن صفحات المجد.