السيناريست عماد النشار يكتب: فَنُّ صِيَاغَةِ اَلْبَيَانِ فِي حِوَارِ أَحْمَدَ مَعَ سُلْطَانَ
أنا حواكيف لم ينتبه أصحاب الملكات والمواهب من الكتاب والمؤلفين والأكاديميين أصحاب التفوق العلمي إلى المشهد الذي بدأ هزليًا يثير الضحك في مسرحية "العيال كبرت"؟ هذا المشهد الهزلي من المسرحية يتناول بأسلوب فكاهي جدية مسألة أسلوب التواصل وعلاقته بتأثيره على فهم الجمهور، هذا المشهد الذي يحمل درسًا في فن البيان، ويعكس حقيقة غائبة عن الكثيرين ممن يعانون من كساد أعمالهم وعزوف القراء ودور النشر بل ورواد المنصات عن الإقبال على أعمالهم، وكذلك الطلبة والباحثين الذين يعانون أشد المعاناة ويشتكون مر الشكوى من مناهج الأساتذة وطريقة شرحهم بسبب أسلوب الكتابة الجامد المعقد.
أحمد، الشاب الجامعي المثقف، بينما سلطان، أخوه الطالب الفاشل الذي ما زال يقبع في الثانوية العامة منذ سنوات ويتفوق في "السرسجة" والانحراف، رغم أنهما من بيئة واحدة، إلا أن حياتهما تسير في اتجاهين متعاكسين تمامًا. الأول كحامل المسك، والثاني كنافخ الكير.
ولكن عندما اكتشف أحمد أن والده، رمضان السكري، يعتزم الزواج من امرأة أخرى، شعر أن استقرار الأسرة ومستقبلها على وشك الانهيار. فدفعته فطنته إلى توجيه النصيحة لأخيه الأكبر سلطان ، محاولًا أن يقنعه بمنع هذه الزيجة. ولكن نصيحة أحمد، بلغة الجامعي المثقف، لم تكن لتصل إلى عقل سلطان، بل كانت عصية على الفهم وتثير النفور منه. فما كان من أحمد إلا أن يغير دفة الحوار بشكل جذري. بدلًا من محاولة رفع سلطان إلى مستواه الفكري، قرر أن ينزل هو إلى مستواه الهابط. وبدلًا من الكلام "المكلكع" بمفهوم سلطان، بدأ في تقمص شخصية أحد أرباب الغرز، وراح يحذره بما يفهمه سلطان جيدًا: لغة الشارع، بلغة بسيطة وساخرة. حوار رشيق وسرد مشوق وأداء مسرحي وصورة سينمائية معبرة قدَّم من خلالهم "الزتونة" التي جعلت سلطان يلتهم الفكرة بنهم ويسرع لتنفيذها.
هنا يطبق أحمد، بشكل غير مباشر، نظريتين في وقت واحد بمنتهى الحنكة والاقتدار: الأولى "الغاية تبرر الوسيلة"، والثانية "خاطبوا الناس على قدر عقولهم". هذه الفكرة، رغم أنها تبدو بديهية وواضحة للعيان، إلا أنه ليس كل واحد يستطيع التقاطها وتطبيقها حتى يستطيع إيصال كل ما يعنيه للفئة المستهدفة. كان الأسلوب التقليدي الذي استخدمه أحمد في البداية – اللغة الجامعية الراقية – فاشلًا في الوصول إلى عقل سلطان، وهو ما جعل التبديل في أسلوب الحوار أمرًا ضروريًا. هذا التكنيك الذي اتبعه أحمد السكري أصبح أكثر وضوحًا في ظل ما نشهده اليوم من طرق تعليمية مبتذلة. فقد بدأنا نرى معلمين في دروسهم الخصوصية يشرحون للمراهقين على أنغام المهرجانات التي تستهويهم، وآخرين يشرحون باستخدام لغة السوقة وأرباب الحرف، ويستعينون بمشاهد من الأفلام ونجوم السوشيال ميديا لربط الدروس بالأمثلة ونماذج راكبي الترند. وهذا بالطبع لا يعني أنها القاعدة، ولكنها الاستثناء الشاذ الذي يستعين به المعلمون المفترض منهم أن ينبذوه ويحذروا منه،بدلًا من محاولاتهم الآثمة في التطبيع بين الزبد وكل ما ينفع الناس، على طريقة ضرورات الثراء الفاحش تبيح محظورات استنزاف جيوب الأسر بالحيل والتفاهات.
إن الرسالة التي يجب أن يدركها الكتاب والأكاديميون الذين يشتكون من كساد أعمالهم هي أن فشلهم لا يعود إلى افتقارهم للموهبة أو الملكة، بل إلى تعقيد أسلوبهم، وجمود صياغاتهم، التي تجعل القارئ أو المتلقي لا يستطيع أن يتواصل مع أفكارهم. ويصبح أمام إنتاجهم سواء بالكتابة أو العرض،مثل المواطن من آكلي الفول الذي أبدع في تصويره مسعودي في مسرحية المتزوجون، وأصبح يقرأ ويسمع ويرى في كل جملة كما لو كانت تحمل الإشارة "حمنه حمنه"!. أما إن كان من مدعي الفهم فيتقمص على الفور شخصية عاطف السكري ويقوم بهز رأسه بتعبيرات بلهاء وكأنه المفكر الكبير!.
وهذا ما نجده مجسدًا في الواقع، خاصة في الندوات التي يتناول فيها ناقد متحذلق نصًا أدبيًا بالتحليل، فيجعل صاحب النص أيضًا في حيرة و لا يُدرك هل الناقد يُحلل نصه الأدبي "أصلا" أم يشرح إحدى نظريات فيثاغورث وأرشميدس لطلبة وكالة ناسا؟.
الرسالة بسيطة: إذا أردت أن تصل إلى الناس، خاطبهم بلغتهم. لا تنسَ أن العالم قد تغير، وأن أفكارك ستضيع إذا كانت موجهة إلى نخبة مغلقة.