د.حبيبة محمدي تكتب: العجوزُ والبحر: «همينجوي» الذى أذابَ جليدَ اللغةِ!
أنا حواأن تكونَ كاتبًا خالدًا رغم مرورِ الزمنِ والسنين، فهذا معناه أنَّ فى كِتابتِك حبرَ البقاءِ، أن تظلَ مستمرًا مع القارئِ، رغم ظهورِ كُتَّابٍ ومبدعين على مرِّ الأجيالِ، فتلكَ هى قَداسةُ الخلودِ، وأعلى درجاتِ الجودةِ فى الكتابةِ، وذلكَ أجملُ حلمٍ ينشدُه كاتبٌ!.
احتفلَ العالَمُ الأدبى منذ أيامٍ بذكرى ميلادِ الروائى الأمريكى الأشهر «إرنست همينجوي»، Ernest Hemingway، (21 يوليو 1899)، وهى الذكرى الـ 125 لميلادِه.
أذكرُ أنَّها كانتْ روايتى الأولى، التى قرأتُها فى وقتٍ مبكرٍ من الأدبِ العالمى، مترجمةً إلى اللغة العربية، مع رواياتٍ أخرى كثيرة... وهى تُمثِّلُ نوعَ الكتابةِ التى تُوسَّمُ بالسهلِ الممتنع، فى لغتِها وتراكيبِها، حيث البساطة والعمق.
«العجوزُ والبحر» التى كتبَها «همينجوى» فى 1952، هى روايةٌ عالمية بكلِّ المقاييس، وقد حصلَ على جائزةِ «نوبل» فى الأدبِ عام 1954، وكان من حيثياتِ منحِه الجائزة إتقانُه لفنِ السردِ، والذى ظهرَ جلِّيا فى روايةِ «العجوزُ والبحر»، ولتأثيرِه الكبيرِ على الأسلوبِ المعاصر.
أما سيرةُ حياةِ «همينجوى»، فتُخبرُنا بأنَّ والدتَه كانتْ موسيقيّة معروفة، علَّمتْ ابنَها العزفَ على آلةِ «التشيلو»، وقد اعترفَ بأنَّ دروسَ الموسيقى تلك قد ساهمتْ فى صقلِ أسلوبِ كتابتِه.
فى تصوّرى أنَّ من مقوماتِ الكتابةِ الحقيقية والباقية هى اللغةُ الدافئة القريبة من القلبِ والعقلِ معًا، حيث على الكاتبِ أنْ يكونَ حقيقيا وصادقا، أنْ يكتبَ ما يعرف، ألا يكونَ متصنِّعا أمام القارئ، فالقارئُ مقياسٌ قويٌّ، وشديدُ المهارةِ لقياسِ الصدقِ والأصالةِ عند الكاتبِ.
ما يصنعُ خلودَ الكاتبِ ليس أن يصعدَ إلى سماءِ غرورِه و«نرجسيتِه»، وينظرَ إلى القارئِ من علٍ!، بل ما يمنحُ الكاتبَ الخلودَ هو أن يعزفَ مع القارئِ سيمفونيةَ الصدقِ وأنْ يحترقَ معه، أنْ يطفئَ صهدَ الكلماتِ فى روحِه، أنْ يكونَ الكاتبُ والقارئُ روحًا واحدة.
لا يصحُّ للكاتبِ أنْ يكذبَ على القارئِ، بل أنْ يكتبَ الكاتبُ ما يعرفُه هُو، وما يفهمُه القارئُ!.. بعبارةٍ أخيرة:
أن يُذيبَ الجليدَ بين الكلمةِ وروحِ القارئِ!.
وتلك هى عظمةُ الكاتبِ، أى كاتبٍ، وذلك هو خلودُ «همينجوى»!.
تلك هى القيمةُ الإنسانية، وهى أن نظلَّ نناضل، دائما وأبدًا، من أجلِ صدِّ الهزيمةِ ومقاومةِ التحدّياتِ والصراعاتِ فى «بحرِ» الحياةِ، وأمواجِه المتلاطمة، فى أحيانَ كثيرةٍ!.
ولـ«همينجوى» مقولةٌ جميلة عن «القوّة»، هى: «الإنسانُ لمْ يُخلقْ للهزيمةِ»!.
تلك هى عظمةُ «همينجوى»، وذلك هو سرُّ طولِ عُمْرِ «العجوز والبحر»، أحدِّ أهمِّ الأعمالِ الروائيةِ فى القرنِ العشرين.