إيمان سمير تكتب: الأماكن ..البيت القديم
أنا حواكانت الشمس تستعد للمغيب رغم وجود الضوء في الأرجاء وكانت خطاي المتسارعة قد هدأت عندما قادتني من الشوارع المتسعة إلى تلك الضيقة، ومن ثم إلى هذا البيت الذي بدا كأنه حلمٌ بعيد عن صخب الحياة والناس أجمعين، تمنيت ألا يتحول إلى حلم بغيض تائه في لحود من رمم، كم تمنيت لو نمت ليلة وحيدة رحيمة تخلو من حلم وجودي هنا، لم أَكَلْ يوماً من محاولاتي ولم تَكَلْ محاولاتي في صدي.
مررت بأناس لم أتذكرهم، تُرى من هذا الرجل الطاعن في السن يرقد تحت قدميه كلبٌ هزيل أسود.
دلفت داخل هذا البيت وكأنني في غابة مسحورة شديدة الهدوء، وضعت قدمي على أول درجات هذا السُلم المتهالك وهنا دار الحوار داخل نفسي، مادامت إرادة الله من غيبتني وهي الآن من أتت بي إلى هنا وما دام الصانع لكل هذا واحد أحد، فلماذا يرتعد الناس ومم يخشون؟ فنحن أثمن عند جلاله من البضائع والزهور وأبراج الأثرياء ومعادن الأرض.
اقرأ أيضاً
أبهجني مس هواء المنزل لوجهي، فَرُحْتُ أغمض عيني أشتم رائحته القديمة التي تخترقني كسيف معدني، تلمست بيدي هذا الباب الخشبي الثقيل وأدرت مفتاحي القديم الصدء، مع فتحه أحسست أن يدا قوية تقبض على روحي فانتفضت متمنية الخلاص وانجلاء هذه الغمرة القاتلة.. تحسست مفاتيح الكهرباء حتى أضأت هذا السراج بسلكه النحيل المتدلي من السقف.. هرعت أفتح شباكا وحيدا قريبا يسمح بدخول بعض الضوء مع نسمة هواء فشلت في إيقاظي من الماضي، كم وددت لو انقطعت ذاكرتي عن حجر أو شجر، تحركت معقودة اللسان موءودة الأمل.. دخلت أول غرفة عن يساري، سوط الرقاد يعذب ذاكرتي، فهذه حجرتي أنا وأخي، سريران متقابلان تعلوهما مفارش حريرية مطرزة متقنة الصنع حتى الحواف، وهذه زجاجة عطر فواح قديم لأمي.
عاودت أدراجي حتى نظرت إلى هذا المطبخ الذي صنعه خالي فكأنما قسم المنزل إلى نصفين، نظرت داخله فرأيت كل شيئ على حاله، إبريق ماء قديم فارغ، وطبق فضي كان للفاكهة المجففة خصيصاً، كم شبعنا حتى ظننا أننا لن نجوع أبداً، وارتوينا من عطف والدينا حتى مات الظمأ.
أود دخول هذه الغرفة، ولكني أرتل الخوف ترتيلا، فهي مكان جلوس أبي، يتملكني شعور الغربة يعصف بي كبلد غريب، كأني أراه جاثياً على الأرض بالظلمة يبتهل إلى الله في ليلٍ غاب فيه القمر وطُمِسَ فيه الضياء، أسمع صلاته وتسبيحه كأن جمعٌ من الملائكة تنزل من السماء ليبارك هذه الرقعة من الأرض، هل السر هنا في المكان؟ أم أنه في أرواحنا التي تفيض قداسة فوقها؟.
وهذه الطاولة التي كنا نجتمع حولها وخاصة وقت العشاء، نشاهد مسلسل الثامنة، أذكر الآن هذه الموسيقى ل " ليالي الحلمية" وبعدها " حديث الروح" ثم نشرة التاسعة.
آآه من صوت أبي وحكاياته عن الماض، فلم يشأ أبداً أن يبدد بسمتنا برواياتٍ فواجع وسرد صدمات السنين، كنت أحب حديثه فأشعر أنه يرفعني إلى السماوات العُلى.
أتساءل الآن ماذا أخذنا منه؟ فقد يرث الأبناء النزوع للخطيئة والاستعداد لها، وقد نرث رجفة الإيمان.
تلمست كتبه ولفائف أوراقه، لم استطع منع ما انفلت من دموعي وأنا اتذكر هذا العم الضال حين ظهر أمام ذاكرتي كشبح فر من قعر القبور، كم كان يهدد ويتوعد بعد وفاة أبي ثم ينظر إلينا كثعبان ارتوى بعد أن سكب في وجداننا قطرات من سم لا ترياق له، فلا قداسة عنده للدم، ربما نسيناه وإن كنا لم نمتثل لجمال "أحبوا اعداءكم".
كساني إرهاق العائد من سفرٍ بعيد فسقطت جالسة على هذا المقعد حتى ظننت أني وهو أصبحنا شيئاً واحداً، ورفعت وجهي لصورة والدي على الحائط، رأيت عينيه الواسعتين مشوبة بزرقة ممزوجة بعسلية ريفية كلها طيبة وذكاء، وبشرته الخمرية المائلة للحمرة، ما هذا البهاء الرباني الذي كان يحيطه؟ خُيلَ إلي أن عيناه تطل من صورته مشفقة علي كالأم التي تناغي رضيعها لأول مرة.
كم أرهقني هذا البيت الذي دفنت به أسرارا تفطر الآن حشاشتي، وكم اشتقت لأبوي مع أني أعلم أنهما يستريحان الآن في حضن سلام أبدي.. ترى هل هما سعيدان بي الآن أم مشفقان علي؟ أيا والدي لا تعجب من سطور أطهيها لجوعى الخبز والحرية، فلم أعد هذه الأنثى التي تتمنى أن تسلب لُبّ الجميع حتى الشيوخ الفانين، أيقنت أن الحياة بها كل شيئ، فلا اندهش من أوراقي ومن قلبي ومن زمني أو دنياي فهم لي شهود عدول، فكل الأعوام تحمل كل الفصول، وأنا لحنٌ واحد يحمل حزن الكمان وشجن الناي ورقص الطبول.