د.عصام عبد الصمد يكتب: أطفال البراميل
أنا حوارائد من رواد علاج العقم في أوروبا، وأشهرهم على الإطلاق ، تخرج فى كلية الطب بجامعة القاهرة في عام 1976، حضر إلى لندن وحصل على درجة عضوية الكلية الملكية البريطانية في أمراض النساء والتوليد (MRCOG) عام 1985 ثم حصل على درجة الزمالة (FRCOG) من نفس الكلية. هذا الطبيب المصرى يعمل استشارى أمراض نساء وتوليد ورئيس أكبر وأشهر مركز للعقم في المملكة المتحدة منذ أكثر من ثلاثين عاماً حسب تقارير هيئة التلقيح والإخصاب الملكية البريطانية، والتي تنشر كل النتائج في كتاب تصدره سنوياً وبه كل المعلومات عن مراكز الإخصاب في بريطانيا. وهذا الكتاب يوزع مجاناً لكل من يريد الحصول عليه من مرضى وأطباء وباحثين في مجال الإخصاب وغيرهم.
تعرفت عليه عام 1993، ومنذ هذا التاريخ أصبحنا صديقين، ومنذ إنشاء المركز وأنا أعمل به رئيساً لقسم التخدير حتى الآن بجانب أعبائي الأخرى.
كنت أنا وهو في الماضى نتحدث سوياً عن أطفال الأنابيب، الآن نتحدث عن الأطفال التفصيل، كنا نتحدث عن تجميد الجنين وتجميد الحيوان المنوى، الآن نتحدث عن تجميد البويضة غير الملقحة، كنا نتحدث عن علم الأجنة، الآن نتحدث عن علم الاستنساخ، كنا نتحدث عن معرفة جنس الجنين، الآن نتحدث عن معرفة أمراض الجنين، كنا نتحدث عن أبحاث الأمراض الوراثية للجنين، الآن نتحدث عن أبحاث الخلية الجزعية (الخلية الأم)، وبذكائه وجلده واجتهاده ساهم في إدخال العديد من التقنيات الجديدة في علم الإخصاب، وقد غطت كل وسائل الإعلام المحلية والعالمية إنجازاته على مدى السنوات الطويلة الماضية ماعدا مصر ، مع أنه طبيب مصري يحمل الجنسية المصرية ولا يحمل غيرها من جنسيات ، صديقى هذا رجل خجول، ومع أنه خفيف الظل جداً، إلا أنه يحاول إخفاء خفة دمه طوال الوقت.
منذ أن تصادقنا، ونحن نجلس سوياً في أمسيات جميلة، نضحك على أي شيء، وعلى كل شيء وعندما لا نجد شيئاً نضحك عليه نضحك على أنفسنا، وفى إحدى الأمسيات طلبت من صديقى أن يحضر للعشاء في منزلى حيث مجموعة من الأصدقاء وكان بينهم المرحومة سعاد حسنى. وبعد العشاء بدأت السهرة بعرض مسرحية من فصل واحد من تأليف وتمثيل وإخراج، سعاد وأنا، وكانت المسرحية تحكى عن أطفال البراميل ونظرية الاستوساخ ، وطبعاً كنت أنا وسعاد نقصد أطفال الأنابيب ونظرية الاستنساخ، وكان الهدف من المسرحية هو جرجرة رجل صديقى الطبيب، والذى يبدوا دائما هادى الطباع عندما يجلس مع جمع من الناس. كانت مسرحية جميلة جداً وكوميدية جداً، جعلت الجميع يضحك حتى نهاية السهرة.
بعد هذه السهرة بفترة، تعرض صديقى الطبيب لحملة تشهير قاسية في برنامج بانوراما الشهير الذي تبثه هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) بالتواطؤ مع هيئة الإخصاب الملكية البريطانية، وقد انتقد البرنامج الطبيب المصرى في نقطتين وهما: أنه يستعمل أدوية غير متداولة في مراكز العقم الأخرى، وأنه يتباطأ في إرسال الأوراق المطلوبة منه. ولكن السبب الحقيقى كان غيره من بعض أطباء العقم الكبار من الطبيب المصرى، لأن المركز الذي يديره هو رقم واحد وأعلى نسب النجاح في العلاج على مستوى بريطانيا بأكملها على مدار السنوات الماضية حتى يومنا هذا ، ولا يستطيع أي مركز آخر من مراكز الإخصاب في بريطانيا أن يتخطاه في الترتيب.
وفور علم اتحاد المصريين في أوروبا الذي أشرف برئاسته بالموضوع، اجتمع مجلس إدارته ثلاث مرات في خلال أسبوع واحد لاتخاذ اللازم من قرارات ضد الأطراف التي تسعى للإساءة إلى سمعة الطبيب المصرى.
وقام الاتحاد في ذلك الوقت بالاتصال بالخارجية المصرية عن طريق السفير المصرى، آنذاك، جهاد ماضى، والقنصل العام محمود أبودنيا، كما قدم الاتحاد عريضة اتهام للمحكمة الجنائية ببروكسل ضد كل من هيئة الإذاعة البريطانية وهيئة الإخصاب البريطانية بالإخلال بآداب المهنة بغرض التشهير وزعزعة ثقة المرضى بطبيب رفيع المستوى.
كما أرسل الاتحاد شكوى لنقابة الأطباء البريطانية ضد بعض الأطباء الذين قاموا في وسائل الإعلام البريطاني والدولى بالتشكيك في طبيب مثلهم بدون إذن من النقابة، وأخيراً أصدر الاتحاد بيان استنكار لما جاء في البرنامج، وبعدها أقام الطبيب المصرى دعوى قضائية ضد هيئة الإذاعة البريطانية وهيئة الإخصاب البريطانية وحكمت المحكمة لصالح الطبيب المصرى وحصل على كل حقوقه الأدبية والمادية منهما، وراح ضحية هذا الموضوع مسؤولون كبار في كلا الهيئتين، ولكن قبل جلسة النطق بالحكم حدث شيء غير عادى لم يحدث من قبل مع أي طبيب في بريطانيا، ففي ظاهرة لم يسبق لها مثيل قام عشرات من مرضى الطبيب المصرى صديقى مع أطفالهم الصغار بتنظيم مظاهرة تأييد له أمام المركز الطبي الخاص به، يرفعون الأعلام والبالونات في الشارع في شتاء لندن القارص تعاطفاً معه ضد حملة التشهير التي تعرض لها ظلماً.
ومن بين هؤلاء المتظاهرين وجدت سيدة بريطانية تقف مع زوجها تحمل طفلها الصغير البالغ من العمر حوالى ستة أو سبعة أشهر معلقا على صدره لافتة عليها بعض الكلمات، وبدون أن أشعر أخذت السيدة وطفلها داخل المبنى خوفاً على طفلها من برد لندن، وقلت لها: يكفى وجود زوجها في الخارج مع المتظاهرين أما هي فيجب أن تنتظر هي وصغيرها داخل المبنى.
وأرسلت لها كوبا من القهوة، وأخذت منها صغيرها ودخلت به غرفة صديقى الطبيب المصرى وطلبت منه قراءه المكتوب على اللافتة المعلقة على صدر الطفل الصغير والمكتوب عليها باللغة الإنجليزية بالطبع (يا دكتور محمد الطرانيسى، أرجوك لا تحزن، انتظر قليلاً حتى أكبر وسآخذ لك حقك منهم)، نظرت إلى محمد الطرانيسى فوجدت عينيه مملوءة بالدموع، ونظر إلى محمد فوجد عينيى كذلك.
وبدون أن أتفوه بكلمة، أخذت الصغير إلى أمه، وفتحت باب المركز وركبت سيارتى ورحلت.