ذات الضفيرة الطويلة.. قصة سيدة تحولت من رائدة إيواء النساء المُعَنّفات للمدافعة عن الرجال
أنا حوابالرغم من أنها خلقت ظروف مواتية لإنشاء مركز استقبال وإيواء للنساء من ضحايا العنف قبل خمسين عاما، عندما فتح أول مأوى خاص بـ"الزوجات المعنفات" أبوابه، وجعلت هدفها يتمثل في المساهمة في القضاء على أنواع التمييز التي تتعرض لها النساء بسبب جنسهن، وما يترافق مع ذلك من عنف متعدد الأشكال، واستمر في العمل ليصبح الملجأ الأكبر والوحيد لسنوات في المملكة المتحدة لمساعدة النساء اللواتي يعانين من العنف المنزلي.
لكن إيرين بيتزي، المرأة التي أطلقت تلك المبادرة في منزل صغير في أحد الأحياء الواقعة غربي لندن، طورت لاحقا أفكارا قادتها إلى أن تترك المنظمة التي أسستها بنفسها، وتصبح على خلاف مع النسوية. وهي الآن تدافع عن حقوق الرجال.
غالبا ما تتحدث نشرات الأخبار عن جرائم قتل نساء من قبل غرباء، ونحن عادة نشعر بالاطمئنان عندما يقال لنا بأن حوادث مثل هذه نادرة جدا وهذا صحيح.
في الواقع غالبية الضحايا من النساء يقتلن على أيدي أشخاص يعرفنهم، إما شريك حالي، أو سابق في معظم الحالات. ومن المرجح أن تفارق القتيلة الحياة على سجادة غرفة المعيشة غارقة بدمها، أو على سريرها، بدل أن تكون تحاول الدفاع عن نفسها ضد مهاجم مجهول في حديقة عامة.
لماذا نعتبر هذا مطمئنا؟ لأن هذا يعني بالنسبة لمعظمنا أننا بمجرد دخول المنزل وإغلاق الباب خلفنا أصبحنا بأمان. مع ذلك، بالنسبة لنساء أخريات، فالباب ليس فقط غير قادر على إبعاد الخطر، وإنما يجعله أقرب.
قبل نصف قرن من الآن، كان الأمر ينطبق تماما على محاولة المرأة النجاة من كدمة سوداء حول العين أو شفة مشقوقة، ولم يكن إغلاق باب البيت هو الحل.
لم يكن هناك نص قانوني لضمان بقاء ضحية العنف الأسري في منزل العائلة بينما يخرج منه الجاني. ولم تكن هناك أي ملاجئ لتأويها، وكان من الصعب على المرأة أن تستأجر شقة بنفسها، حتى لو كانت قادرة على تحمل تكاليفها.
ولطالما غضت الشرطة الطرف وتجاهلت الأمر إلى حد كبير على اعتبار أن الأمر "مجرد شأن عائلي". وهكذا كانت المرأة، بعينها المصابة، وأضلاعها المكسورة وحروق السجائر على جسمها تبقى في المنزل الذي تتعرض فيه للضرب.
في نوفمبرمن عام 1971 كان الطقس ضبابيا رطبا، وحصل حادث تصادم على أحد الطرق السريعة المحيطة بلندن أسفر عن مقتل تسعة أشخاص.
وفي ذلك الشهر أصدر فريق الروك الإنجليزي ليد زيبلين ألبوم "ستيروي تو هيفن" (سلم إلى الجنة) وكان ذلك قبل وقت قصير من افتتاح شبكة طرق سريعة معقدة تصل بين العديد من المناطق، كما عرض حينها الفيلم السابع عن جيمس بوند وهو "الماس للأبد" ونشر أول كتاب في سلسلة "مستر مين" من الكتب المخصصة للأطفال.
ومع ذلك فقد توجب الانتظار لعقدين من الزمن قبل أن يصبح الاغتصاب الزوجي جريمة في نظر القانون البريطاني، و10 سنوات قبل أن يصبح من حق المرأة أن تُخدم في حانة عامة إن لم تكن بمرافقة رجل، وثلاث سنوات قبل إقرار قانون تكافؤ الفرص الائتمانية، الذي أنهى شرط وجود شريك رجل للمرأة يوقع الطلب معها لكي تتمكن من الحصول على قرض.
في ذلك المناخ العام كانت نساء يعبرن باب البيت الذي تديره "منظمة تشيزيك لمساعدة المرأة". وفي الداخل تدور الأحاديث عن خبراتهن ومشاعرهن المشتركة مع الخوف، والوحدة، والافتقار إلى مكان يأوينهن، أو شخص يلجأن إليه. أجواء من الخيبة والقلوب المكسورة.
وبنبرة من يسرد وقائع فعلية، تقول إحدى النساء "في إحدى المرات كاد أن يخنقني. حشرني في طرف الأريكة، وشرع في ضربي، وفي النهاية كل ما كان بإمكاني تذكره هو الدم.
الدم الغزير اللزج الذي ينزف من فمي".
وتضيف "لقد قال لي بعدها، إنه كان يعلم أنني كنت في تلك اللحظة بين الحياة والموت. وكانت عيناه باردتان للغاية، ومخيفتان للغاية، وكان يبتسم".
إيرين بيتزي
في ذلك الوقت، كانت إيرين بيتزي "وهي أم لطفلين تعاني الملل ولديها كراهية مرضية للأعمال المنزلية"، كما تصف نفسها، تشعر بعزلة متزايدة.
فعمل زوجها كان غالبا يتطلب منه الغياب عن المنزل، وقررت أن تنشئ مركزا اجتماعيا للنساء القريبات من منزلها في غربي لندن. مكان لشرب فنجان من الشاي والدردشة، وتلقي الدعم والنصيحة بما يخص نظام المساعدات التي توفرها الدولة أو الحصول على الرعاية الصحية.
وفي أحد الأيام جاءت إلى اللقاء امرأة تصطحب أطفالها وجسدها مغطى بكدمات بشكل نعل حذاء رجالي. وقالت "لا أحد يقبل بأن يساعدني"، وضربت هذه العبارة على وتر حساس لدى بيتزي، التي تذكرت شعورا مماثلا عندما كانت مراهقة.
كانت بيتزي قد عانت من طفولة مضطربة، وعدم استقرار، إذ ولدت في الصين في بداية الحرب العالمية الثانية، لوالدين على خصام، ولم يكونا يحبان بعضهما البعض، أو حتى يحبان أطفالهما.
كان والدها سيريل كارني مدمنا على الكحول، ويعمل في السلك الدبلوماسي، وتنقل بعد الصين في عدة أماكن، إذ عين في إيران وجنوب أفريقيا والسنغال، وبالطبع كانت عائلته تتبعه حيثما ذهب.
وتقول بيتزي إن والدتها كانت الأعنف جسديا تجاهها، وكانت تضربها إلى أن يسيل الدم من ساقيها. كانت قاسية ومتحكمة، وذات لسان سليط.
كان والد بيتزي أكثر وضوحا ربما، لقد كان رجلا غاضبا وعنيفا شبيهاً بوالده الغاضب والعنيف أيضا. كان مدخنا شرها ومفرطا في شرب الخمور، ويرفض الاستحمام لاعتقاده أنه "يضعف الجسم". وكانت رائحته تصل لمسافات بعيدة.
بعد عودة العائلة إلى إنجلترا في الخمسينيات من القرن الماضي، توفيت والدة بيتزي. وبدلاً من دفن زوجته، مددها كارني على طاولة غرفة الطعام. وكان هو وأطفاله يزورون الجثمان كل مساء لمدة ستة أيام لمراقبة مسار تحلله.
تقول بيتزي "أتذكر بوضوح أنه كانت هناك قطع قطن محشوة في منخريها"، وقد طلبت من الجيران مساعدتها في دفن والدتها "لكن لم يقبل أحد بأن يساعدني".
كما وجدت أن عدم التعاطف الذي أظهره المجتمع تجاهها في طفولتها "مؤلما". وتقول "لن أكون أبدا مثل أؤلئك الجيران غير المبالين وأدير ظهري لمن هم بحاجة".
وهكذا، عندما خلعت تلك المرأة سترتها وكشفت عن جسدها الهزيل المكسو بالكدمات الحمراء والزرقاء والسوداء جراء الضرب المتكرر، وتلفظت بنفس تلك العبارة اليائسة، فإن "منظمة تشيزيك لمساعدة المرأة"، ولدت فورا ومن دون سابق تخطيط.
ولم يكن أحد يتوقع الجهد الذي ستتطلبه المنظمة، ولا احتياجاتها الكثيرة.
ونشرت إعلانات في الصحف نصها: "أنتن ضحايا عنف منزلي؟ وبحاجة إلى مساعدة؟" مع رقم هاتف.
وكان ذلك بمثابة شريان حياة حقيقي لجيني، وهي إحدى أوائل النساء اللواتي ساعدتهن المنظمة. وقد قصت الإعلان من الصحيفة، وخبأته تحت سجادة، لكي لا يعثر عيله زوجها، وهي تقول "كان سيقتلني" لو رأى قصاصة الإعلان.
كانت جيني قد تواصلت سابقا مع طبيبها العام، ومع كاهن الكنيسة التي تذهب إليها، في محاولة لإيجاد طريقة لترك زوجها.
وقيل لها إن الحل هو "التصالح" مع الرجل الذي ضربها وتسبب لها بجروح وحروق وعضّها وحاول إغراقها. كانت عيناها محاطتين بكدمتين سوداوين دائما، وجسدها هزيل بشكل يوجع القلب. وقوبلت مناشدتها للمساعدة بالتجاهل، حتى عندما تعرضت للركل واللكم في الشارع وهي حامل.
تتذكر بيتزي بأنها شعرت لأول مرة بأنها في "حميمية المنزل" حين أرسلت مع أختها التوأم إلى مدرسة داخلية في إنجلترا. وكانتا تقيمان خلال العطل المدرسية في نزل خاص في دورست، حيث كان عدد من الأطفال الذين يقيم آباؤهم وأمهاتهم في الخارج، يعيشون كعائلة واحدة كبيرة وسعيدة برعاية مشرفة تدعى السيدة ويليامز.
تقول بيتزي "حين كان الجو مشمسا، كانت تعطى لنا وجبة غداء في علبة خاصة منذ الصباح، ونترك أحراراً لنركض ونلعب طوال اليوم".
لقد كان ذلك هو النهج الذي اتبعته المنظمة في الملاجئ التي افتتحتها. كانت تدار على أسس مجتمعية، النساء يقمن بالأعمال المنزلية ورعاية الأطفال. والقرارات المهمة تتخذ عن طريق التصويت.
وتقول "لقد كان كل ملجأ نفتتحه يمتلئ على الفور، كانت هناك نساء ينمن مستندات إلى الجدران ورؤوسهن بين ركبهن، وأطفال ينامون مصفوفين مثل السردين على مراتب مفروشة على الأرض، كنا نطبخ للجميع باستخدام مواد غذائية تبرعت بها شركات محلية وحاولنا المحافظة على روح معنوية عالية".
وتمضي قائلة "كانت أجساد النساء اللواتي يصلن إلى ملجأنا الأول في شارع بلمونت تيراس مغطاة بحروق السجائر وآثار القرص، وبقع صلع في رؤوسهن جراء انتزاع خصلات من الشعر، وبعضهن يعانين من إصابات مروعة نتيجة اعتداءات جنسية".
في غضون أسابيع فقط، كانت 18 امرأة و 46 طفلاً يعيشون في منزل تشيزيك، ينامون على مراتب مشتركة، مصفوفين بطريقة التناوب بين الرأس والقدمين. لقد كان المكان مزدحما وصاخبا ولا تتوفر فيه أي خصوصية شخصية لكنه كان آمنا.
مرة قالت إحدى النزيلات: "العنف في حد ذاته ليس بسوء الرعب والخوف. لا أعرف ما هو مزاجه عندما يأتي. لا أعرف ما إذا كان علي أن أختبئ في مكان ما". وكانت قد فقدت النظر في إحدى عينيها بعد أن ضربها زوجها بشكل تسبب في انفصال الشبكية. ولم يسمح لها بالذهاب إلى المستشفى.
كان لتلك العبارة صدى خاص أيضا لدى بيتزي. فهي تعرف معنى العيش في أسرة مستبدة. يمكنها أن تتذكر "تجمدها" عندما كانت تسمع الرسالة المحذرة المتمثلة بصوت بصقة والدها في حوض الزهور قبل أن يضع مفتاحه في قفل الباب.
لكن سياسة الباب المفتوح لكل المحتاجات، التي اتبعها الملاذ في تشيزيك، سرعان ما أثبتت أن النوم بالتناوب بين الرأس والقدمين ليس حلا كافيا أبدا لاستيعاب الجميع.
لكن بيتزي، الكاتبة المتزوجة من مراسل تلفزيوني آنذاك، كانت لديها اتصالات مع جهات إعلامية ساعدت في تسليط الضوء على هذه القضية.
ومع هذا، كل المجالس المحلية في بلديات الأحياء التي طلبت منها المساعدة رفضت، فبدأت المنظمة باتباع سياسية التسلل إلى المنازل المهجورة أو غير المستخدمة منذ فترة طويلة، والاستيلاء عليها.
وتقول بيتزي "لم تستطع الشرطة أن تفعل شيئا، لأن التسلل إلى المنازل المهجورة لم يكن غير قانوني في ذلك الوقت، كما لم يرغب أي مجلس محلي في أن يعيد إسكان 15 أما مع أطفالهن في كل مرة يتم فيها إخلاء أحد البيوت التي تسللوا إليها. حتى أننا تسللنا إلى فندق بالم كورت المكون من 47 جناحا في منطقة ريتشموند".
لكن في أوائل الثمانينيات قررت بيتزي أن تترك المنظمة الخيرية بعد خلاف متعلق بمبادئ النسوية، والتي تعتقد أنها "معادية للرجل"، وتجبر النساء على أخذ دور الضحية.
كانت طفولتها حاضرة في ذهنها عندما "بدأت النسويات في شيطنة جميع الآباء"، كما تقول، فذكرياتها عن كلا والديها كانت "تذكرني بحقيقة أن العنف المنزلي لا يرتبط بجنس معين".
وتضيف "لم أكن نسوية إطلاقا، لأنني بعد أن تعرضت لعنف والدتي، كنت أعرف دائما أن المرأة يمكن أن تكون شريرة وغير مسؤولة مثلها مثل الرجل".
وموقفها الآن من العنف المنزلي، هو أنه قضية عائلية، وعادة ما يكون متوارثا بين الأجيال، والرجال والنساء قادرون على ممارسته، ومسؤولون عن ذلك بدرجة متساوية.
وتجادل بيتزي في كتابها "عرضة للعنف" بأن نسبة كبيرة من العنف المنزلي تحدث لأن كلا الشريكين "مدمن" على مستوى الأدرينالين المرتفع المرتبط إما بالشعور بالخوف أو بتخويف الآخر.
وتقول إن "بعض النساء غير قادرات على الابتعاد عن مصدر العنف، مهما زعمن أنهن راغبات في ذلك. ويبدو أنهن يملن إلى العودة إلى الشريك العنيف، وفي حال تركه، ينتقلن بسرعة إلى رجل عنيف آخر".
اليوم، أصبح عمر بيتزي 82 عاما، وهي تعتقد أن مساواة الإساءة العاطفية بالعنف الجسدي "إهانة كل زوجة تتعرض، أو تعرضت للضرب"، وهو موقف لا توافق عليه الجمعيات الخيرية، التي تساعد ضحايا الإساءة بكافة أشكالها.
صوت من أجل الرجال
وهي الآن محررة موقع "صوت من أجل الرجال" المناهض للنسوية، وهي لا تزال مؤمنة بشدة بمساعدة العائلات على التعافي من العنف، لكنها ترفض التمييز في المساءلة حسب الجنس.
كما لا تزال بيتزي تشعر بالحزن على اللواتي لم يهربن للنجاة بحياتن، نساء موجودات فقط في الصور الجماعية القديمة لمنظمة "تشيزيك لمساعدة النساء". النساء اللواتي تقول إنهن تركن فجوة كبيرة مؤلمة.
إنهن النساء اللواتي عدن إلى شركائهن العنيفين.
وتتذكر بيتزي المرأة التي جاءت إلى الملجأ عام 1974 وكن يدعونها "الجدة المحبوبة المضروبة"، والتي تركت زوجها سمسار البورصة وانضمت إلى الملجأ المليء "بفوضى الأمهات والأطفال، وكان وجهها مغطى بالتجاعيد وكدمات سوداء حول عينيها".
وتقول بيتزي إن تلك المرأة تعرضت للركل لاحقا حتى الموت من قبل ابنها، الذي أفسده ما شهده من عنف بين والديه. وتضيف "إنني حزينة جدا عليها".
وهناك أيضا راشيل، كما تقول بيتزي، وهي أم لخمسة أطفال، عادت إلى منزلها بعد حصولها على أمر قضائي ضد زوجها بعدم التعرض لها. لكنه قتلها طعنا في نفس الليلة.
وكذلك بيل التي قُتلت خنقاً بعد أسبوعين من عودتها إلى زوجها الذي أقنعها بدموعه وباقات الزهور والوعود الكاذبة، التي أطلقها للتلاعب بعواطفها.
والسؤال هو، بعد إدراكها المتأخر، هل كانت بيتزي ستتصرف بطريقة مختلفة؟
تقول "لم يكن لدي أي خيار، كما تعلمين، أحد أصعب الأشياء التي يمكن تعلمها، هو السلام".
وتعد الحواجز الحقيقية التي يمكن أن تقلل من الفقر والهشاشة وجميع أشكال العنف، إنما تكمن في العمل الكريم والمعاملة المتساوية والتغطية الإجتماعية الحقيقية عبر أنظمة تأمين تعتمد على الحق وليس على المنة.